المأزق اللائكي : مأزق التدبير العقلاني للدولة / زعموا ما فتئ اللائكيون يُجارون العقلاء بادعاء حكمتهم في حسن تدبير الدولة ، إذ كثيرا ما يتفاخرون في أدبياتهم بميزة الإدارة العقلانية للدولة عبر الحديث عن مجال فصل السلطات و احترام الكفاءات و الاحتكام إلى القانون و فسح المجال لحرية الإعلام و العدل بين الناس في المنازعات و الاستناد إلى المسطرة القضائية في محاكمة الجناة...فهذا الطوفان الجميل من الترسانة اللغوية العريقة تُمثِّل في الحقيقة عالما قائما بذاته مفصولا عن التطبيق اللائكي للأماني و التعبيرات إذ تتحول سريعا إلى كيان من المعكوسات تترجمه عموما الإدارة السيئة و الفاسدة للائكيين على مدار عقود من الزمن .إن النظر المقتضب حول الأداء اللائكي في تحكمه للدولة يحيل مباشرة إلى وضع كارثي آلت إلى انهيارات متتالية في مفاصل الدولة و المجتمع و إلى انسدادات كبيرة في قطاعات التنمية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية و الإعلامية و الفنية مما استدعى الثورة على المسئولين اللائكيين و البحث عن بديل حقيقي يعيد الاعتبار للكوادر الشريفة الغيورة على وطنها و للممارسة السياسية النزيهة في مستوياتها الإجرائية و التطبيقية ، كان لابدّ من وضع حدٍّ ليس فقط للاستبداد في تجلياته المادية و إنما أيضا للعقليات اللائكية المؤسسة لقيم الخَوَر السياسي و المنتجة لكل أشكال الانحلالات و الأوبئة الطاحنة لجسد الأمة ، لكن لما قامت تباشير الثورة على الظلم اللائكي بتهشيم رأس الطاغية مبارك و البدء في عملية البناء التدريجي لمؤسسات الدولة أسقطَ الثوار من حسابهم كون هذا الرأس لا زال حيا يتعافى حتى اشتد عوده من جديد فتحركت اللائكية للدفاع عن قلاعها عبر تسخير دهاقنة الدولة العميقة بافتعال الأزمات و خنق موارد الاقتصاد ليأتي بعد ذلك دور القراصنة المتمردين لاستكمال عمليات الشغب المادي و العنف الإرهابي الوضيع . كان التدليس اللائكي للدولة سواء عندما قادها أصحابها بالفعل أو عندما أداروها من الخارج كان لاعقلانيا قائما على النهب الماكر و زرع مافيات و لوبيات التحكم في كل شيء و تمركزَ حول إطلاق أيادي أباطرة الفساد في القضاء و الإعلام، بكلمة : كانت اللائكية الاستبدادية العروبية هي الدولة ذاتها .
بعد أن نجحت عصابات قيادات الجيش و الداخلية في إعادة أنياب اللائكية إلى مقراتها و عشها الرئيسي و بدأت طوابير المثقفين اللائكيين تصفق للآلة الإرهابية و تشارك في قتل قيم التعددية و مبادئ الانتقال السلمي للسلطة كان طبيعيا أن تثمر سلسلة من الميكانيزمات الفاسدة لتدبير الدولة المُغتَصَبة، فقد سارعَ كبير السفاحين إلى وضع مخطط شيطاني –شأنه شأن كل الطغاة – لتصفية المؤسسات المنتخبة و إعادة الفاشلين الفاشيين الرئاسيين (موسى،الصباحي،أبو الفتوح،البرادعي) و الحشاشين (تمرد) إلى أجهزة الدولة ، و حتى تكون عملية التجميل مقبولة و مخضرمة لا بأس بتطعيم المجالس بعمامة فقيه العسكر و مشعوذ الطائفة القبطية و تعيين الأمي في الدستور عدلي منصور الموسوم بالطرطور شعبيا . إن التدبير الأعرج للائكيي الثورة المضادة للدولة دلّ على عودة اللعب السياسي في تعيين الشخصيات و اختيار الزعامات، فحركة التعيينات اللائكية العسكرية للمحافظين لم تكن تخضع في الحقيقة إلا لمنطق إرادة العسكر و لم يكن لها من غرض سوى إحكام السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة بما يمكِِّن الخونة العسكرية من إدارتها حسب الطلب، كما أن تعيين "لجنة الخمسين" للنظر في التعديلات الدستورية لم يعتمد على الكفاءة القانونية كما أنها لم تمثل الطيف المجتمعي المتنوع من أساسه، فنظرة فاحصة لكراكيزها يُسنتَج منها حجم حضور الأمية السياسية و القانونية المتخصصة فضلا عن الهيمنة المطلقة لجبهة "الإنقاذ" التي لا تترك أي مجال للحديث عن النزاهة القانونية و الموضوعية المطلوبة ، لكن و مع ذلك لا يُعدَم فيها جهبوذ يُعدّ من فطاحلة فقهاء القانون و الضليع في الدراسات القانونية حتى صار مرجعا دوليا و خبيرا عالميا في شؤون القضاء و الدستور ، يتعلق الأمر بطبيعة الحال بالمتمرد الشهير و المرموق محمود بدر !
إن الانقلاب لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يتعايش مع أهل الاختصاص و الكفاءات و لا يمكن إلا أن يسفر عن تدمير العقول و المؤسسات لا تدبيرها ، و لأنه بنية قامت فلسفته أساسا على أنقاض الدولة العادلة فإن الحتمية الاستبدادية تفرض عليها التماس طريق الأشلاء و الدماء و الملاحقات و احتكار مصادر القوة في الدولة و تحويلها إلى إطارات خاوية يسهل قضمها و توجيهها بما يضمن للطاغية البقاء الأطول و الأمثل . إن الدولة اللائكية الظالمة الانقلابية تصنع لنفسها دولة خاصة تعينها في المناسبات على تجديد ذاتها تماما كما فعلت مؤسسات مبارك عندما قامت بإحيائه و انتشاله من المشنقة و الإفراج عن كبار اللصوص بأحكام قضائية ملعوبة بإتقان. إن مقارنة خاطفة بين الطاقم البشري المتخصص في اللجنة التأسيسية التي تكلفت بصياغة دستور لعرضه على الاستفتاء و بين كراكيز اللجنة الخمسينية لا يسع المرء إلا أن يُقبِّح الانقلاب و أهله .
على سبيل الختم
إذا كانت الأسطوانة الدائمة للائكيين تدور حول إبراز تخوفاتهم من التطبيقات التي ستنجم عنها محاولات الأسلمة عند وصول الإسلاميين للسلطة فإن الأجدى النظر إلى تنزلات العقل اللائكي على الواقع و مآلاته الخطيرة التي كرست حالة من الضياع الجماعي للدولة و المجتمع و وصلت درجتها إلى مهالك الاحتماء بالانقلاب و دفعه لشن غارات على المخالفين في الرأي السياسي، نحتاج لنضج سياسي فارق لكي تفيق النخب اللائكية من وهمها في الانفراد بالقرار في إدارة الدولة ، نحتاج إلى نضج يُفهٍمُ المنهزمين في معركة الديمقراطية التنافسية بأن الرهان يكون في تعبئة الشعب و العمل الجاد لخدمة الوطن لكسب الثقة و احترام قواعد التنظيم السياسي و التعاقدي و لا يتحقق البتة في شحن العصبيات العروبية و الزعامات الوهمية، النضج الذي يؤمن بحق الأغلبية في تدبير برامجها وفق رؤيتها و منظورها الخاص دون أن يُحجَّر عليها في حقها التي بها رشحها الشعب للقيادة ، و ما اختراع فرية "الشرعية الشعبية" إلا بدعة سياسية لائكية مسمومة وُضِعت أساسا لخدمة مشروع الانقلاب الدموي فلما انتهى دورها تحرك فلول القضاة لاستصدار قرار منع إسقاط أي رئيس بالحراك الشعبي . لعبة قذرة ! إن هذا الوعي يمثل شرطا فيصليا لا بديل عنه إذا ما أُريدَ لسفينة النجاة الوصول إلى بر السلام و إلا فاضطرابات الأمواج العاتية لن تدعها ترسو بأمان البتة، و لن ينفع الرهان على الغرب في استتباب الاستقرار و تحقيق الاستقلال فالأنياب الغربية قدمت الدليل في تجربتها مع الجزائر و أثبتت عدائها للخيارات الشعبية في تولية رؤسائها المنتخبين، و قد صدق الراحل عبد السلام ياسين رحمه الله عندما سطر هاته الكلمات في كتابه النفيس (الإسلام و الحداثة ) قائلا : " يجب أولا أن نكون واثقين من أن الغرب لن يفتح ذراعيه لأية حكومة إسلامية مادام قادرا على منعها من الوصول إلى الحكم، لن ينشر الغرب البساط الأحمر ليستقبل لجنة مكونة من إسلاميين،بل سيحاول – إذا ما تهورت الصناديق و منحت الفوز للإسلاميين – أن يزرع الألغام و يدعم العمليات القذرة المستوحاة من الطريقة الجزائرية " ( ص 313) .