يبدأ الانسان حياته القيمية الأولى انطلاقا من آليات التحليل والتركيب والتقييم , وهذه العناصر الأربعة هي معبر الذات العاقلة نحو الوجود الجمعي, وعليها يعتمد في عملية الاندماج في هذا الوجود الذي هو منه وإليه , وبها أي بهذه العناصر يكون الانسان ما نسميه ''الموقف/المبدأ '' , ففي البداية ينطلق من معرفة قيمة ثم يحللها ويقيمها ومن ثم يرفضها أو يقبلها ليتم استبطانها كقيمة تكون مبدأه وسر شخصيته , وعندما تكون الذات الشخصية العاقلة نشطة توظف تلك العناصر (التحليل والتركيب والتقييم) في تنظيم علاقته بالآخرحيث يولد التسامح والتفاهم والتطور وتستفيد منه الذات العاقلة (الفرد) وموضوع التعقل (المجتمع) , أما عند إهماله تلك العناصر مع اعتماد مبدأ تملك الحقيقة المطلقة والمعرفة المطلقة أو القوة المطلقة , يولد التطرف المعرفي أو الديني أو السياسي أو حتى العلمي . ويعتبر التطرف الديني أقوى هذه انتشارا في المجتمعات البشرية منذ أن ظهر الدين . 1- التطرف الديني: أكثر انتشارا في المجتمعات البشرية لكونه يدغدغ مجالات الانسان الثلاث : العقلي والوجداني والحسي حركي , مع توظيف كبير للمجال الوجداني ,ويعنى بالتطرف الديني المغالاة فيه مع الحدة القوية والانتقال بالمذهب الديني إلى طرف بعيد عن الوسطية وعن أنساق معظم أفراد المجتمع , ويرى الدكتور القرضاوي أن ''التطرف معناه الوقوف في طرف بعيد عن الوسط '' . يتميز التطرف الديني بأن المتمسكين به يرفضون كل رؤية متجددة , كل رؤية من شأنها أن تجدد في تحيين النص الديني لعصرنة المجتمع ومكوناته وذلك باعتبار أن المعرفة الدينية هي اليقين المطلق , والعلم المطلق والحقيقة المطلقة , وتعتبر الدين حاملا لأسرار جميع العلوم , في حين أن المتأخرين في كل علوم الدنيا هم الشعوب المتدينة , بل أوغلت أي الشعوب المتدينة هذه في الخرافة وتقديس الأموات والأولياء الأحياء منهم والأموات , حتى أن كل مساس بها عند بعض الشعوب يعتبر كفرا وخروجا من الملة , وبهذا يتم استبعاد العلوم اليقينية التي تحمل الصواب والخطأ وتسود '' المعرفة اليقينية التي تقوم على الجواب الواحد الصحيح والتي تستمد قوتها من اسباغ اليقيني عليها , وبدون وجه حق من خلال التمسك بالأصول وأصالتها الماضوية وبالثوابت فإنها تؤدي حتما إلى خصاء الفكر ومعه يوصد باب العلم والمعرفة المتجددة والحية ''(1),وظهرت فئة من الناس في الوطن العربي تتناول القرآن والحديث بالتفسير والشرح وهم يجهلون حتى بأبسط معرفة بالعلوم الشرعية بل منهم أميون , وأحيانا على مسمع أهل المعرفة منهم , ودون تدخل لإصلاح المسألة , لأن الأصل في ذلك هو التعصب الظلامي للفكرة والعصبة لا للدين لأن الدين الإسلامي في حقيقته الأصلية جاء في جزء كبير منه ليرفض كل عصبية ,,لافرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ,, (2) '' وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا عن الله يحب المقسطين '' (3) فالقرآن الكريم يأمر بدفع الظلم لا بالتعصب لفئة معينة , فالتعصب مرض نفسي/اجتماعي دعى الاسلام إلى تجاوزه بإلحاح .
سيكولوجية التعصب
أ مشكل التعصب: إن مشكلة التعصب هي ما يجب أن يكون ضمن استراتيجية الباحثين السيكولوجيين لمواجهة التحديات التي تفعل فعلها في الوسط الاجتماعي بغية تشخيص للمرض مبكرا والبحث عن العلاج , فالعصبية الظلامية ضارة جدا خصوصا وقد ظهر ما يشغل هذه العصبية في السياسة والاقتصاد والميل الشديد إلى الحصول على كرسي الحكم بتوظيف أسلوب العصبية الدينية .
ب مفهوم التعصب : لمفهوم التعصب عدة تعريفات قدمها علماء النفس إلا أنه قد تم التركيز في البداية على التعصب السلبي باعتباره حالة مرضية تتعارض فيها حيثيات التوافق النفسي والصحة النفسية مع التكيف الاجتماعي , يقول كيوكومب 1965 ''التعصب اتجاه بعدم التفضيل , يمثل استعدادا للتفكير والشعور والسلوك بأسوب مضاد لأشخاص آخرين لكونهم أعضاء في جماعة معينة '' وقال ستيفان 1991 ''هو اتجاهات سلبية تجاه أفراد ينتمون إلى جماعة معينة قامت على أساس ديني أسياسي ''.
فالتعصب إذن حالة نفسية يقع فيه الفرد قسريا أو إراديا ,ففي الحالة الأولى تسببه الضغوط والظروف النفسية حيث تتشكل حالة مرضية يفسد معها المزاج الاجتماعي العام ,أو تسببه الظروف الاجتماعية حيث الضغط الاجتماعي يفرض من خارج الذات ويصاحبه انفعال زائد يتبعه سلوك عدواني يغيب معه المنطق ,أو تسببه الظروف السياسية حيث تتكون حالة ضغط سياسية يعلو فيها صوت المصلحة الحزبية الضيقة .
أما الحالة الثانية التي هي التعصب الإرادي, فهي تأتي عن طريق التحصن من قبول فكر الآخر ويتم رفضه ولو تمنطق بحجة عقلية قوية كالتعصب لفكرة أو لمجموعة أو التشبث برأي أو بوجهة نظر يصاحبها انحياز عاطفي أو بدونه, وهي أيضا إما تعصب سياسي أو ديني أو غير ذلك ,ولقد '' افرد الباحثون لقضية التعصب مباحث عديدة , ولكن هذه المباحث تقع غالبا في الدراسات النفسية والسيكولوجية ''. (4)
وما يجدره ذكره هنا أن الجهات السياسية والاجتماعية تنحو نحو وضع هذه الملفات المثقلة بالتعصب وخاصة التعصب الديني في دائرة الملفات الصعبة وذلك ابتغاء صبغ مجتمعاتها بمظاهر حضارية تليق بالعولمة , وأيضا ابتغاء تجنب النعرات التعصبية , لكن ومع ذلك فقد فرض التعصب الديني نفسه بقوة أوصلته إلى الذروة وصار يؤخذ له بالحساب علانية وتحت قباب البرلمانات .
وما يجدر بنا الإشارة إليه أيضا هو ان هذا التعصب الديني يتجه في أغلب الأحيان نحو معتقدات نمطية يغلب فيها الفكر المتصلب إلى حد التحجر إذ يصاحبه انغلاق ذهني يقاوم التغيير بطريقة غير منطقية تأنف منها كل الديانات السماوية , ومثل هذا ما نجده عند البعض ممن يدعون المعرفة بالدين وقد سيسطر عليهم أشخاص أو جماعات يملكون القدرة على التلاعب بالنفوس الضعيفة ولو أن لديهم تراكمات روحية لا يستهان بها إلا أن الجهل يعميهم عن إدراك الحقيقة .
يبدوا مما سبق أن التعصب الديني قريب في معناه إلي التطرف الديني وهذا قد نلمحه عند الدكتور حسن الحوجو من الجامعة الاسلامية بغزة ''التطرف الديني إصطلاحا الغلو والتقصير .....فبعض المسلمين ممن تجاوزوا الحد في الاعتدال والوسطية إلى الغلو والتطرف ينظرون إلى الأمور بنظرة سلبية ظلامية '' (5) .
ومما يميز المتطرف الجاهل بالدين هو تحريم الغناء كله والموسيقى كلها والتصوير والمسرح ,وإعطاء مفهوم خاطئ للنصوص التشريعية وتحجير كتاب الله ومحاولة إخضاع الظروف الحالية في هذا الزمان لأسباب نزول في زمن مضي قد تم تجاوزه كليا تقريبا ومحاولة أخذ المجتمع الاسلامي من زمنه الحالي وإخضاعه لزمن فجر الاسلام بحجة الأصالة والرجوع إلى السلف الصالح فتتحول المقولة : القرآن صالح لكل زمان ومكان إلى ما معناه أن القرآن لا يصلح إلا بقياسه على زمنه الأول , وهذا إن دل على دلالة ما فهي أن كثيرا من حاملي لواء الدن الاسلامي يرغبون في إحياء الدين بطريقة مشوهة لا يكون الدين الاسلامي معها سليما , خصوصا وبعض الجماعات منها تتناول كتاب الله بالتفسير والشرح حسب ما يمليه عليها الهدف الدنيوي , وبرزت إلى الوجود جمعيات ذات أنشطة موسمية تدور حصرا حول الغيبيات وتأبى ان تتناول المواضيع الاجتماعية /الدينية لأنها لم تؤسس لذلك, فهي بهذا أقرب إلى السلطات منها إلى هموم المجتمع.
وإلى جانب ذلك توجد جماعات دينية تؤرقها قضايا يدافع عنها المنتمون إليها ويضحون من أجلها, وهؤلاء من يواجهون معارضة قوية من الحكومات المسيطرة في بلدانهم . وما يميز هذه الفئة أنها لاتؤيد إسلام المذاهب الفقهية الأربعة وتدعوا إلى الإحيائية الدينية وتصحيح المفاهيم لكن باعتماد النمموذج الأصلي في الدين, والفكره الأساسية عند هذه الجماعات ملخصة في كونهم يدعون إلى إحياء الدين لكن مع تغييب المبادرة العلمية التي تعتمد النقد والأسلوب العلمي في تمييز الحق عن الباطل, وهذا تفكير سلبي ينتجه عقل بشري من المفروض أن يكون سليما يعتمد الحجة والمنطق ,فكيف تم الانزلاق ؟
أسباب ظهور التطرف والتعصب الديني :كجميع الظواهر الاجتماعية فإن ظاهرة التطرف والتعصب الدينيين في المجتمعات الإسلامين خلقته أسباب موضوعية له بها علاقة تلازمية تظهر بوجود هذه الأسباب وتختفي مع اختفائها وقد تكون أسباب هذه النعرات التعصبية الدينية مشاكل سياسية ذات مرجعيات دينية (=نموذج الفاطميين في مصر في الماضي ) ونموذج الطالبان في أفغانستان ونماذج السودان والجزائر والصمومال , في الوقت الحاضر .
ومن أبرزأسباب التطرف وتحول الجماعات الاسلامية إلى جماعات مسلحة:
1 - سلوك بعض الأنظمة العربية التي طالما دعت الجماعات الاسلامية إلى الاعتراف بالديمقراطية والاندماج فيها , ولما أقبلت هذه الجماعات على الديمقراطية وصارت تحقق مكاسب انتخابية جيدة غودر بها وصودرت حقوقها وشوهت واتهمت بالارهاب (= نماذج : جبهة الانقاذ في الجزائر , حماس في فلسطين , ) والأكثر وضوحا وإشهارا حالة الإخوان المسلمين في مصر حيث تعاونت أطراف دولية عليها بحجة أنها جماعة إرهابية في حين أن الأسباب الحقيقية غير معلنة لأنه لوكانت الأسباب هي التطرف الديني بالفعل لما وصل الإخوان إلى رئاسة الجمهورية في مصر , ويمكن للقارئ أن يستقرئ أحداث الساعة وقد يتوصل إلى ما يريد .
وقد تكون لهذه العصبية أسباب أخرى بنيوية مرجها إلى العزلة والتعصب والتباعد بين أفكار لبنات المجتمع .
2 – لم توفق السلطات في خلق الاندماج الاجتماعي بين فئات المجتمع وخاصة داخل الجامعات
3 - كون نواة المجتمع العربي لها خلفيات ثقافية مضادة للتغيير وغالبا ما توظف هنا المسألة الدينية ,الإسلامية أو المسيحية لأغراض سياسية.
4 – سوء توزيع الثروات والدخل القومي في بعض المجتمعات العربية وكذا توزيع الوظائف . - 5 - الخلفيات العصبية الدينية / مسلم سني/مسلم شيعي// مسيحي // يهودي .
6- غياب النظرة العلاجية لظاهرة التعصب الديني بل تم استغلالها محليا ودوليا أبشع استغلال (= ظهورمنظمة القاعدة – جماعات إسلامية توظف لنشر أيديولوجية دينية - جماعات دينية توظف سياسيا ) كما تم توظيف المسألة اليهودية في مشروع إسرائيل الكبرى , وتم توظيف المسيحية لضرب بعض الحركات الإسلامية , فبرزت مصطلاحات كانت تستعمل من قبل المستعمر لتشنيع الحركات التحررية في الوطن العربي كمصطح الارهاب الذي وصفت بها الدول المستعمرة الثوارالعرب أيام الحركات الإستقلالية : المغاربة والجزائريينوالفلسطينيين والهنود وكل ثوار العالم ,أما اليوم فصارت تنعت بهذا النعت الجماعات الاسلامية , وذلك بعد أن أن اطلقها الغربيون عليهم , أما استعمالها من الانسان العربي الذي وصف بها ثواره سابقا فهي حالة مرضية يتماهى بها الناطق بها بمتسلط سابق هو الاستعمار , خصوصا وأن مرتكبي الجرائم , وهم الذين يرهبون المجتمع , لايوصفون بهذا , بل يكتفي بوصفهم بالخارجين عن القانون .
7 7 – التصورات النمطية المشوهة للحركات الاصلاحية الاسلامية التي تعتمد الديمقراطية في المشاركة السياسية , حيث'' ظهرت جمعيات وأحزاب ذات أبعاد ثقافية وتربوية معنية بالدرجة الأولى بمسألة الهوية الخاصة .........والدفاع عنها ومنها الإخوان المسلمون وأهل السنة واتحاد الشبيبة الاسلامية والكشاف المسلم '' (6) ومما يميز هذه الجماعات أنه ترى أن العلاقة الشعائرية علاقة بالألوهية , والعلاقة المتصلة بالاستخلاف والتدبير هي علاقة تربوية , ومما يميزها أيضا أنها تشارك في العملية السياسية , وعندما تكون نتائج صناديق الاقتراع لصالحها , تصادر تلك النتائج : كما حدث في الجزائر حيث صودرت النتائج من جبهة الانقاذ لصالح العسكر , وفي فلسطين , صودرت من حماس لصاح حركة فتح , وفي العراق صودرت , لصالح المالكي , وهو محسوب على الشيعة , وفي مصر أخذت من الإخوان وصودرت إلى العسكر , وتموت نتائج الديمقراطية , وهذا أخطرما يكون إذا يوحي ذلك بوضوح أن الديمقراطية نمط سياسي فاشل في البلدان العربية كما يوحي إلى أن المجتمعات العربية لايمكن جمعها إلا بالقمع والديكتاتورية ويتعجب المرء حين يسمع جماعات تؤيد هذا النقض الفاضح للديمقراطية , ولعل هذا دليل آخر قوي على أن المجتمعات المتدينة لاتصلح لها الديمقراطية , إذ أنها لم نخترق بعد الأنساق القديمة كما فعل الحداثيون الغربيون بل الدين لها أنفع من أي منظمومة عامة أخرى . 8 – استفزازات عن طريق تدنيس القرآن الكريم . كل هذه الأسباب تظافرت فيما بينها فأنتجت ظواهر التعصب الديني وصل إلى حد الصراع الوجودي بين ديانتين مختلفتين (= الاسلام واليهودي ) , بل وحتى بين أهل دين واحد : المسلميمن السنة / المسلمين الشيعة المسلمسين الاخوان / المسلمين غير اللاخوان , كما ظهر مؤخرا في مصر , حيث تم توظيف الفن والفتاوى الدينية لصالح هذه التفرقة . الهوامش 1_(( د. مصطفى حجازي . / الانسان المهدور / ط 2 / 2006 / ص 58)) .2- حديث شريف 3_ قرآن كريم 4- (أ-د علي أسعد وطفة /التعصب ماهية وانتشارا في الوطن العربي ) 5 -(د حسن الحوجو /الجامعة الاسلامية بغزة /كلية أصول الدين /أبريل 2005) 6- (رضوان السيد /الصراع على الاسلام / ص / 80 )