ربما سيستغرب القارئ العادي في البداية من هذا العنوان الذي اخترته لمقالي هذا، ويبدأ في طرح تساؤلات عدة حول من تكون هذه القارة التي فقدت شمالها؟ وكيف حدث ذلك؟ وما مصيره؟... عكس ذلك عندما سيسمع بهذا الخبر الباحث الجغرافي، سيجد أنه من المستحيل أن تفقد قارة ما أو دولة ما شمالها حتى لا قدر الله إن عرفت كارثة طبيعية ما مدمرة فقدت من خلالها هذه الرقعة الجغرافية شمالها سيتجدد شمالها وفق خارطة وإحداثيات جديدة. لكن ماذا لو ضرب شمال هذه القارة زلزال القومية الغربية ويدمر تراثها وحضارتها وتاريخها وثقافتها وهويتها؟ وتسع جاهدتا بإلحاق هذا الشمال فكريا، سياسيا، تاريخيا، ثقافيا، وهويتا إلى قارة أخرى لا علاقة بينها جغرافيا؟ فالكل يعلم أن لكل قارة في العالم شمالها ما عدا القارة الإفريقية التي انتزع منها شمالها لصالح آسيا، أي منطق هذا الذي ينفي عن الهوية المغربية انتماءها إلى إفريقيا بالدرجة الأولى؟ أضن أن الأيديولوجية التي تبنتها دول شمال إفريقيا أعمتها حتى بالتعرف على الجغرافية. كثيرا ما نسمع في الآونة الأخيرة مجموعة من الخطابات الرسمية تدعوا إلى إعادة بناء الهوية الوطنية المغربية، ونحن نتساءل: على أي أساس وأية شرعية تستند هذه الدعوة؟ أليس إجحافا في حق الشخصية الوطنية المغربية أن ندعوها اليوم إلى إعادة بناء ذاتها، وهي الممتدة في عمق التاريخ الإنساني والشاهدة على حضارات تمتد آلاف السنين؟ إن الذي يحتاج إلى إعادة بناء الذات وتحديد ملامح الشخصية هي الهويات الدخيلة على المغرب، وفي مقدمتها الهوية العربية. لا يجب أن يفهم من هذا الكلام أننا نعيش صراعا بين الأمازيغ و العرب أو بين اللغة والثقافة العربيتين واللغة والثقافة الأمازيغيتين، وإنما لا نقبل بالسياسة الاستيعابية الإدماجية التي تريد أن تقصي جميع الأصول والقضايا الجوهرية فوق أرضنا، وهنا تكمن في الحقيقة أزمة التاريخ الرسمي للمغرب، فهل يعكس حقيقة ما عاشته الإنسانية في المغرب كما في شمال إفريقيا منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض؟ ما نحتاجه حقيقة في المغرب هو إعادة كتابة تاريخ هذا البلد لتصالح مع الذات الحقيقية أولا، لأن التاريخ الرسمي الذي يلقن في المدارس والجامعات ويتداول في الإعلام هو تاريخ مزور ومشوه ولا يعكس حقيقة الذات المغربية. إن تداول مثل هكذا مفاهيم "الوطن العربي"، "الأمة العربية" إلى حد الآن في كل القنوات الرسمية المغربية يمثل الاستعمار الفكري الذي ما زالت تمارسه القومية العربية على الثقافات الأخرى، ومن الواجب مراجعة هذه المفاهيم باعتبارها دخيلة على المغرب وعلى شمال إفريقيا، التي من خلالها أصحابها إدماج الأمازيغ في مجال غير مجالهم. وما يجب أن يفهمه أصحاب هذا الإدعاء القومي في المغرب أن الأمازيغ ليسوا ضد فكرة القومية العربية حين تطبق في إطارها الجغرافي والبشري والتاريخي، حيث للعربي الحق أن يفتخر بقوميته أشد الافتخار، لكن عندما تخرج هذه القومية عن الإطار وتفرض على الغير، فعندئذ تتحول إلى استعمار واحتلال يجب مقاومتها، لذلك نقول، نحن الأمازيغ للعرب: إن لنا خصوصيتنا ومميزاتنا الحضارية، ولن نصير عربا مهما فعلتم، وإن طال نضالنا قرونا من الزمن. غالبا ما يتم الخلط بين مفهوم الهوية والثقافة مع العلم أن هذين المفهومين لا يعنيان نفس الشيء، فالهوية كما تعرفها مجموعة من القواميس العلمية هي: "مجموعة من الصفات أو الخصوصيات الثابتة التي يتميز بها شعبا ما عن الأخر" عكس الثقافة التي هي: "مجموعة من القيم والتقاليد والرموز المتغيرة بفعل علاقة التأثير والتأثر بالثقافات الأخرى". من هنا يتبين أنه لا يمكن لشعب ما أن يستورد هوية معينة من شعب آخر على اعتبار أن هويته ثابتة تتعلق بجغرافية أرضه وتاريخه والإنسان الذي يتعايش على هذه الأرض، عكس الثقافة التي يمكن لشعب ما أن يستورد ثقافة معينة ويمارسها على أرضه، وخير دليل ما يعيشه العالم اليوم من تحولات في ثقافة الشعوب بفعل العولمة، لكن تبق لهذه الشعوب ثقافاتها المحلية التي تميزها على ثقافة الشعوب الأخرى. وحتى الدين الإسلامي الذي يحاول البعض أن يجعل منه هوية لشعوب - مع العلم أن الإسلام دين جاء للعالمين، ليس هوية لأحد – يؤكد هذا الاختلاف بين الشعوب والقبائل والألسنة في مجموعة من آياته، ومن خلال هذا الاختلاف يستمد تلك الصبغة الكونية والعالمية، "إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..." وقوله تعالى "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم...". فعند حديثنا عن موضوع الهوية، لا بد من الإشارة إلى وجود نوعين من الهوية كما يصنفها مجموعة من المهتمين بهذا الموضوع: الهوية المنسجمة والهوية المركبة، ونحن كأمازيغ نرفض تصنيف الهوية المغربية في إطار الهوية المركبة كما جاء في الدستور القديم-الجديد 2011 الذي ينص على أن الهوية المغربية مشكلة من أعراق مختلفة: أمازيغ، عرب، صحراويين... الخ. إن الهوية المغربية منسجمة وموحدة،لكنها لا تنفي أنها عرفت وفدا من الحضارات والأقوام والديانات فاستوعبتها داخلها، وتعايشت معها باعتبارها رافدا من روافد الشخصية الثقافية الوطنية، مت دون أن تتنازل عن أبعاد هويتها الوطنية الثابتة المحكومة بالأرض والتاريخ والإنسان. هذا يعني أن "الكيان المغربي" و "القومية المغربية" ليستا مكونتين من اثنيات مختلفة كانت في الأصل شعوبا بدون أرض فاندمجت مع شعوب أخرى بأرضها، فكونت دولة معينة، بل إن الأمازيغ كانوا على أرضهم، وكانوا شعبا منسجما إلى أن وفدت عليهم أقوام بفعل الهجرة أو بدواعي الاستعمار والاحتلال فاندمجت في الهوية الأمازيغية المغربية وتلبستها راضية. أما حديثنا عن الهوية المركبة نستحضر نموذج دولة بلجيكا، حيث نجد الفلاميين قد اندمجوا مع شعب فرنسي بأرضه وتاريخه وحضارته، وذلك باتفاق الطرفان على إنشاء دولة اسمها بلجيكا، بحيث يكون مفروضا على ملك البلاد أن يلقي خطابه بلغتين رسميتين ووطنيتين هما الفلامية والفرنسية. ويمكن أن نذكر نموذج آخر في العراق وقضية الأكراد فيه: فالأكراد ليسوا عربا، بل كان هناك شعب كردي له أرضه وتاريخه وثقافته وحضارته، إلى أن جاءت الحرب العالمية الثانية فشتتتهم بين تركيا والعراق وإيران... لذلك لا يستطيع أي حاكم أن يذيب الأكراد أو يمحي هويتهم أو يدمجها في هوية أخرى لأنهم شعب بأرضهم ولغتهم وثقافتهم، فلا الأكراد يقبلون أن يكونوا عربا، ولا العرب يقبلون أن يصيروا أكرادا، وبالتالي مستقبل العراق قائم على أساس دولة ذات هوية مركبة. أما المغرب فلا ينطبق عليه مفهوم الهوية المركبة، لأن الهوية المغربية لا تعتمد في تحديد خصائصها على العرق، وإنما على الأرض والشعب والثقافة والحضارة وهذه المميزات كلها ذات ملامح أمازيغية صرفة. فهناك زنوج جاءوا من إفريقيا ودخلوا إلى الهوية الأمازيغية، كما أن هناك عربا قدموا من الجزيرة العربية واختاروا أن يندمجوا في الهوية الامازيغية، وهناك أوربيون نزحوا من أوربا ودخلوا الأرض الأمازيغية وقبلوا الأندماج مع الشعب الأمازيغي، وداخل الحضارة الأمازيغية شكلت كل هذه الأعراق هوية وطنية منسجمة هي الهوية الأمازيغية. وحدهم العرب المساكين من يتمسكون بالعرق ويتعصبون له، ففي إطار منظومتهم العربية يقولون أن: العربي + إنسان آخر = إنسان غربي، فبمجرد أن يكون هناك عشرة أفراد من عرب دخلوا أرضا ما غير عربية يدعون أن الكل ذاب فيهم وصار عربيا، وهذا يدل أن الفئة من العرب التي دخلت المغرب مع "الغزو العربي" فرضت الهوية العربية على باقي الشعب الأمازيغي المغربي، اعتقادا منها أن العرق العربي هو الصافي النقي الذي لا يمكن أن بفعل فيه عوائق الزمان و لا تقلبات الجغرافيا، في الوقت الذي نجد في أمريكا مثلا أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لا يذكر أصله وإنما يفتخر بهويته الأمريكية مع العلم أنه ألماني الأصل لأن بعد مرور أجيال صار مواطنا أمريكيا فكرا وثقافتا وحضارة نفس الشيء لرئيس باراك أوباما الإفريقي الأصل، لكن نتعجب ونستعرب من الأصل العربي عندما يعتقد أنه لا يذوب ولا بفني في الهويات التي دخلها. إن هذا القهر الذي يمارس على الأمازيغ باسم العروبة والإسلام و باسم الفكر القومي العربي يجب أن ندركه جيدا لنناضل من أجل الخروج من تحت معطف هذه الإيديولوجية المهزومة شر الهزيمة ومن أجل إثبات هويتنا الحقيقية، التي هي هوية أمازيغية لا عربية ولا إسلامية وهذا ما يجب أن نناضل من أجله. إذن ما نحتاجه في المغرب اليوم هو إثبات ركائز هويتنا الوطنية، وذلك من خلال الخصوصيات والثوابت التي يتميز بها الإنسان الأمازيغي المغربي من اللغة والتاريخ والثقافة والحضارة والقيم... الخ، لكن هذه الخصوصيات لا يمكن أن تكتسب أهميتها إلا بعد أن تتم دسترة اللغة الأمازيغية والاعتراف بها كهوية وحيدة ورسمية للمغرب في دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا، وليس في دستور الذي ما يزال يكرس لدولة الأشخاص والرعايا، لا يعرف الشعب المغربي من خلاله من يحكم؟ ومن الذي يجب أن يحاسب؟