من داخل فضاء أسرير البديع والجميل، وسط المدينة العتيقة بتزنيت، غير بعيد عن المسجد الذي بناه التوارك- الطوارق في زمن القافلة والرحلة، زمن التبر والملح والذهب. تم تحديد موعد الزيارة للمعتقل السياسي محمد الوحداني… خلال صبيحة اليوم الموالي، وهو يوم صيفي حار من أيام غشت الحارقة وما أدراك ما غشت في تزنيت. في طريقنا إلى السجن، أفكار كثيرة تدور في ذهني وتتكرر على شكل خيوط متشابكة، تتشابك وتتعقد مع اقترابنا إلى أسواره الرمادية الشامخة، الشائكة، المحروسة. اشعر باختناق وأنا في سيارة الزميل "بومهدي" برفقة أصدقاء آخرين... لا أعرف لماذا تتزاحم علي أفكار غير مرتبة وغير متناسقة، مع أحداث تاريخية متباعدة ومتفرقة. تذكرت العديد من الروايات التي قرأتها في ما يسمى بآداب السجون، القديمة منها والحديثة، آخرها رواية المصري "يوسف زيدان" الموسومة ب"كوانتانمو"... لا أعرف لماذا تذكرت إمارة "تازروالت" وسجنها السفلي البارد القاتل، تذكرت تيزنيت حين انتفضت في ثورة عارمة وخرب أهلها قصبة المخزن عن آخرها وسطحوها مع الأرض وشيدوا مكانها مسجدا،،، جالت في ذهني كذلك أشواط حركة أحمد الهيبة ودخوله إلى مراكش، واندحار حركة "حايدا" بأحواز تيزنيت على مشارف ايت باعمران،،، تذكرت آخر كتاب قرأته عن الباشا الكلاوي وطريقة تعذيب المقاومين والمعارضين له.... وتأسفت كثيرا عن استحالة العثور، في مدينة تزنيت، على ديوان المؤرخ المرحوم "صدقي علي أزايكو" عنوانه "إيزْمُولْنْ" الذي كتبه وسط السجن سنة 1981...كنت انوي إهدائه للسي محمد الوحداني... من دفاتر "أونطونيو كرامشي" إلى سيرة "نيلسون مانديلا" ووصولا إلى مذكرات "محمد الرايس"... بين هذه السير الذاتية القاسية، ومن هذه التجارب بالذات، تنكسر كل أسلاك السجون وقيودها وتتلاشى على أسوارها لترسم حروف الحرية والانعتاق في تاريخ الشعوب قبل حيوات الأفراد. لم تتعقد كثيرا عملية دخولنا إلى السجن بحكم اتصالات قبلية أجراها الزملاء مع الإدارة مشكورين، دخلنا إلى مكتب تابع لرئيس مصلحة الشؤون الاجتماعية بالسجن، بعد دقائق، هاهو سي محمد الوحداني، رأيته قبل دخوله إلى المكتب وهو يرسل نظراته إلى الداخل لمعرفة منهم اللذين طلبوا لقاءه، لأنه غير معلوم بهذه الزيارة، في تلك النظرة الاستكشافية الاستباقية، ابتسم وقال،، هذه مفاجئة كبيرة. تبادلنا التحية والسلام بحرارة وصدق....لا يمكن بالبث والمطلق وصف تلك اللحظة نهائيا.... جر كرسي وجلس بجانبي قبالة الرفاق الآخرين، "سي محمد" بدا أنيقا وبشوشا وقويا في الكلمة والخطاب والحركة... لغة صادقة وحادة، دائما ما تتبعها حركات وإشارات باليدين وهي مواصفات الزعماء ذوي الفصاحة والرسالة... تحدث "سي الوحداني" في البداية عن الزيارة داخل السجن، كفعل، وكحدث وطقس يمكن اعتباره مقدسا على المستوى الانثروبولوجي.... لا يعرف قيمتها وصداها ومكانتها البالغة الأهمية إلا النزلاء،،، في خضم الحديث عن أوضاعهم وظروفهم، تكلم عن تجربة ثقافية وتربوية مهمة يقودها داخل السجن وهي إشرافه على المكتبة، مما جعله يتقرب أكثر من هموم النزلاء وبعض مشاكلهم، بل يساهم في حلحلة الكثير منها عن طريق تشجيعهم على القراءة والمطالعة وخاصة الشباب منهم... في كل حين يسألني عن أحوال افني وآيت باعمران، اكتفي بجملة أو جملتين، أختصر الكلام متعمدا حتى لا أدخل في تفاصيل وصف واقع رديء، واترك له المجال في الحديث وطرح أفكار أخرى مع الزملاء... اليوم بعد مرور ما يقارب 3 أشهر على تلك الزيارة الخفيفة، وبعد أن اتضحت نتائج الموسم الانتخابي، أريد أن أجيب للمعتقل السياسي رئيس بلدية سيدي افني، عن سؤاله حول أحوال افني وآيت باعمران....سأحاول قدر الإمكان اختصار الإجابة،،، للأسف الشديد، فمنطقة ايت باعمران وحاضرتها افني دخلت عهدا جديدا منذ الانتخابات الجماعية الأخيرة، عهد أقل ما يمكن عنه أنه مشؤوم ومفلس، فيه نكوص إلى الوراء عوض التطلع إلى الأمام والنماء، وضع كارثي كرسته الخريطة التي أفرزتها الانتخابات المحلية، عودة المفسدين إلى قلاعهم محصنين بمن فتح لهم أبواب المسؤولية ضدا على إرادة الناخبين وأرقام الصناديق,,, افني تعيش نكبة سياسية خطيرة غير مسبوقة. بطريقة هوليودية، وبخبث دفين ينم عن جشع وتمسك بالفساد والتحكم، تم تحوير مسار الديموقراطية والتمثيلية الناجعة التي يتطلع إليها سكان افني منذ عقود في إطار مسلسل قاس وشاق، تم إقبار تجربة سياسية فتية، وبروز طغيان سياسي معروف بالسطو على أملاك الناس، في تحالف أسود مع عديمي الكفاءة والمروءة، لتصبح أبواب افني مفتوحة أمام الهاوية، مطلة على الانحدار وتسير نحو الانحطاط... ربما يبدو أن هذا الكلام فيه مبالغة وتهويل،،،، ولكن يؤسفني ذلك، لأن هذه هي الحقيقة، ويتوجب علينا قولها، ولا يمكن الخوف من المفسدين لأنني وجميع سكان المدينة وبوادييها يعرفونهم،،، يعرفونهم، نعم يعرفونهم ويدركون جيدا كيف يلتهمون ويوزعون عقارات المدينة على هواهم، كيف يتلاعبون بأملاك الناس ويتملكوها بالظلم والاحتيال والقهر.... وكيف لا يعرفونكم؟ هي أيام معدودة، معدودة جدا، أقل من شهر، ستعانقون فيها الحرية، وستعود أيها الرئيس إلى أحضان الأسرة الصغيرة والكبيرة... لكن عيناك سترى نفس الصور التي كانت قبل اعتقالكم، صور خراب الفيضان وغضب الوديان وأطلال النسيان.... المنطقة كما تركتها في السنة الفارطة...مر حَولٌ من الزمن ويزداد الهول على القوم... هكذا، يكون مستحيلا الحديث عن محمد الوحداني دون الحديث عن شؤون مدينة افني، بمجرد ذكر اسمكم يتبادر إلى الذهن مباشرة سؤال الواقع والمصير...مستقبل منطقة اسمها آيت باعمران....إنها في حاجة ماسة إليك وإلى رجال ونساء من أمثالك...