في رحاب محمد بازي الأول اعترافا بمقام محمد بازي الجد، ومادمنا في رحابه العالية المشعة في تاريخ أولاد ميمون ، يطيب لمحمد بازي الحفيد أن يسهم في تدوين مجموعة من المرويات التي سمعها من الذين عايشوه آخر حياته، أو الذين سمعوا عنه، على شكل مسارد موجزة: المسرد الأول هو محمد بن أحمد بازي بن محمد بن إبراهيم بنداود الميموني الإدريسي؛ ولد بأولاد ميمون، ولازال البيت الذي ولد فيه قائما بالبلدة وسط الدوار القديم، وقد زرته عدة مرات. ذكر لي الكثيرون من الذين رأوه أو سمعوا عنه أنه كان- رحمه الله- طويل القامة، في غاية الوسامة، وعليه سمت وهيبة ووقار، تميز بالشجاعة والإقدام والكرم، وبالدفاع القوي عن البلدة وعن ممتلكاتها، يحمي الضعاف، وينصر المظلومين.كان أكبر إخوته: رقية ، اليزيد، حدية ، مبارك، مبريكة ثم العروسي ، وقد تربوا جميعا في كنفه، وكان يشتغل بالفلاحة وتربية الماشية، ويحفر البحر من أجلهم . كان قوي البنية يهاجم العدو بشراسة، ولا يدخل معركة إلا لينتصر فيها ، هذا في زمن السيبة والاستعمار، والهجومات المتبادلة بين القبائل، وظل جسمه مليئا بآثار الجروح والضربات وأثار الرصاص جراء المعارك الكثيرة التي خاضها. من أعيان أولاد ميمون المشهورين، لا تعقد شؤونها دون استشارته وحضوره. استطاع أن يوفد إلى البلدة العديد من الشجعان من القبائل الأخرى، وأن يوفر لهم حاجاتهم من المسكن والزوجة والأرض للدفاع عن البلدة وحمايتها. وقد اجتمع في شخصيته بذلك البعد الدفاعي الحربي، والبعد الاجتماعي الإنساني، والبعد الديني؛ إذ عرف عنه تمسكه بالدين وبالتصوف على الطريقة الدرقاوية وخاصة في أواخر حياته، وعُرف بسبحته الطويلة الممدودة على عنقه وصدره، أو المتدلية في يده إلى الأرض. ولازالت السبحة، وبعض الأواني القليلة التي كان يستعملها في إطعام ضيوفه موجودة إلى اليوم. المسرد الثاني أحيا أتباع الطريقة الصوفية الدرقاوية ببيته الكثير من الليالي الدينية ، وكانوا حوالي الأربعين أو الخمسين نفرا ، كانت جدتي عائشة سعيد رحمها الله تروي مثل هذه الأخبار لوالدتي، ومن ذلك أن جدي لم يخبرها بقرب حضور الضيوف إلا عند وقوفهم بالباب، وكان الدرقاويون كُثرا، فسارعت إلى تهييء الذرة، وإيقاد النار، ثم هيأت لهم عشاء لذيذا غمرته بزيت الزيتون، فطعموا وشكروا أهل البيت وذكروا الله كثيرا ثم انصرفوا. شارك محمد بازي الجد في الحرب ضد المستعمر الفرنسي إلى جانب أحمد الهيبة الذي كان يزوره بالبلدة إلى جانب أعيانها ليلقي المواعظ في الناس ويحثهم على الجهاد، غير أنهم لم يستطيعوا –كما هو معروف تاريخيا- التغلب على الفرنسيين قرب مراكش. المسرد الثالث روى لي أحد أعمامي أن بعض الفرنسيين اعتادوا الصيد بالبلدة ، وصادفهم محمد بازي ذات يوم قرب بيته، فأكرمهم غاية الإكرام، ثم انصرفوا إلى حال سبيلهم. وحدث أن صراعا كان بين أهل البلدة، و وبين جيرانهم من أهل إنشادن والسوالم على الأرض الفلاحية التي بينهما، واعتصم أهل البلدة هناك( البريجيون والخرباويون) ، ومنهم محمد بازي الجد، لكن الجميع فروا إلى الأحراش المجاورة بسيدي بورجة، واختبئوا فيها لمَّا رأوا القائد الحاج وأعوانه، الذي كان يعمل لصالح الفرنسيين آنذاك ، وبقي صامدا في وجهه مطالبا بالأرض، فتم القبض عليه وسُجن، وقال بعض الظرفاء للهاربين واسمه الهاروش: ” أخرجي أيتها النعاج أما الكبش فقد أخذوه” ، ثم حُكم عليه بستة أشهر حبسا . وحدث أن الفرنسيَّيْن اللذَين أَلِفا الصيد بأولاد ميمون سألا عنه أحد الأشخاص وكان يتكلم الفرنسية ، فقيل لهما إنه بالسجن، عرجا مباشرة ولم يكملا الصيد يومها ، وتوجها إلى أكادير حيث أجريا اتصالاتهما وتدخلاتهما ، وتم إطلاق سراحه في الحين، كما أن الأرض التي كانت محل نزاع آلت إلى أولاد ميمون. لقد عاش محمد بازي الجد في وقت مليء بالحروب والنزاعات بين القبائل والدواوير، وفي مرحلة التدخل الاستعماري الفرنسي، لكنه ظل متشبثا بوطنيته، مدافعا عن بلدته مشرفا على مصالحها ، محافظا على دينه، وقد امتد صيته وتأثيره إلى المناطق المجاورة. المسرد الرابع من الأحداث الهامة التي ربما عايشها وهو في ريعان شبابه مرور الحسن الأول إلى الصحراء المغربية سنة 1296ه ، وتحرش أعداء أولاد ميمون بهم، وخاصة آيت الدليمي بمنطقة إنشادن الذين كان لهم سلطان قوي، وطغيان ذريع وتحكم في رقاب الناس و أموالهم ومصائرهم ، والذين ظلوا يكنون عداء دفينا لأولاد ميمون ، وكانوا يقتلون الناس عن طريق وضعهم في المطامر إلى أن يهلكوا جوعا، ومن اُدْخل قلاعهم المهولة لا يطمع في الخروج منها. كما عُرف عنهم استعباد الناس وتشغيلهم قسرا، ويُروى أن سلسلة العمال كانت تمتد من الخلاء البعيد حيث حجر البناء، ثم يسلم الرجل الصخرة إلى رجُل قربه حتى تصل البنَّائين فتوضع في الجدار مباشرة، وقد يدفنون العامل في ألواح الطين داخل الجدار إذا مرض أو اشتكى أو تأفف، هذا ما سمعناه والله أعلم بأي ذلك كان. وهم الذين سبق أن قبضوا على أخ الجد الأول أحمد بازي(والد محمد بازي الجد)، ثم طلبوا فدية لإطلاق سراحه، فباع أخوانه و أخواته أرضا لهم من أجل إيجاد المال لإطلاق سراحه، ثم سلموا الفدية ، لكن المحتجزين كانوا قد غدروا فقتلوا الرجل. وعندما ذهب أخوه لحسن لإحضاره بعد دفع الفدية ، قيل له إن أخاك مات. عاد راكبا فرسه وهو في غاية الحزن والأسى ولما وصل أمام المسجد، صرخ بكل قوة قائلا:” واسفاه على أخي الذي مات دون أن أراه!” ، وسقط بعدها عن فرسه إلى الأرض ميتا، أدخله الحاضرون المسجد ثم غسَّلوه ودفنوه. تزوج الجد بازي أول الأمر مبريكة عليات أم فاطنة محمد، وهي البنت الوحيدة له من زوجته تلك، ثم تزوج بعدها عائشة سعيد، وله منها مجموعة من الأولاد الذكور ، توفوا جميعا رحمهم الله( مولاي لحسن بازي ، مولاي بوجمعة بازي، مولاي الحبيب بازي، مولاي عبد الله بازي)، مولاي الحسين بازي و مبريكة(أطال الله عمرهما). للجد محمد بازي أحفاد كثيرون يعيش أغلبهم اليوم بأولاد ميمون، أو ببعض المدن المغربية أو فرنسا. مرض الجد بازي في آخر أيامه، وظل مقاوما العجز والمرض ، مؤمنا بالله، وبقضائه، وظل تحت رعاية زوجته وأولاده إلى أن وافته المنية سنة1955 وتوفيت زوجته عائشة بعده بخمسة عشرة سنة أي في فبراير 1970، أي بعد عشرين يوما من ولادة كاتب هذه السطور، إذ تم الحديث بين أولاده على مسمع من الشاهد الذي كان حاضرا وقتها أن الفرق بين وفاة أبيهم وأمهم هو خمسة عشرة سنة. والله أعلم بالتحقيق، وقُبِر بأولاد ميمون . المسرد الخامس : ظهير التوقير لمعرفة أيت الدليمي بقوة أولاد ميمون أوشوا إلى السلطان العلوي الحسن الأول أثناء توجهه إلى الأقاليم الصحراوية بأن أولاد ميمون قوم يرفضون الانصياع للسلطان العلوي، ولهذا السبب تدخلت جيوش السلطان ودمرت أولاد ميمون فسميت لخرابها ” الخربة” . لكن بعد عودة الحسن الأول من الصحراء المغربية تبين له أن ما قام به أتباعه من تخريب كان ظلما وعدوانا، ومن هنا جاء ظهبره الشريف الذي يأمر فيه خدامه وأتباعه بتوقير الميمونيين واحترامهم وعدم إذايتهم، ورد زكاتهم على جدهم سيدي ميمون دفين المزار، وهذا نص الظهير: ” جدَّدنا بحول الله وقوَّته، وكامل عزه للشرفاء الميمونين الإدريسيين، فرقة من كسيمة وفرقة بهشتوكة، حكم ما تضمنه ظهير سيدنا الجد المقدس، المجَدَّد على ظهائر أسلافنا الكرام المتبعين في دار السلام، من توقيرهم واحترامهم، وعدم إذايتهم عما تُكلف به العامة من الوظائف المخزنية، والإذن لهم في رد زكاتهم وأعشارهم على ضعفائهم، وطلبة مدرسة جدهم المذكور، والأمر لقبيلة كسيمة وهشتوكة بأن يوقِّروهم ويعرفوا حقهم، ويولوهم من البِرِّ والإكرام ما يستحقونه تجديدا تاما، نأمر الواقف عليه من خدامنا وولاة أمرنا أن يعلمه، ويعمل بمقتضاه، ولا يحيد عن كريم مذهبه ولا يتعداه. والسلام. صدر به أمرنا الشريف في 27 محرم الحرام عام 1296ه. الحسن الأول.(مأخوذ حرفيا عن النسخة الأصلية). وفي هذا اعتراف كبير بمكانتهم الدينية والتاريخية. المسرد السادس سمعت من كثير من الناس أن الميمونيين استطاعوا بعد هجمات ايت الدليمي وأيت الحاج الرامي المتكررة عليهم ، وخاصة إذا كان الرجال خارج الدوار في السوق أو الحقول، فينهبون بيوتهم نهبا ، ويأخذون ما فيها من زروع وحلي وماشية ودواب، بل يزيلون الأبواب ويحملونها معهم. ومنها هجمات المعروف ب”حَيْدا”، والذي عرفت إحدى الحقول باسمه وهي ” كْرَيْمَتْ حيدا”، حيث فر “حيدا” في إحدى هجماته وقبض الميمونيون على من كان معه، ورموهم في بئر، وأصبحت النساء الميمونيات يتغنين بهذا سخرية به وبهجمته الخاسرة: واحيدة رجع لحَرْكَة دْيالَك راه ماماتوا ما بِهم والو راهُم غير فالحاسي( البئر) أي قضي عليهم المسرد السابع دبَّر أولاد ميمون خطة محكمة لمهاجمة أعدائهم والنيل منهم، في حصونهم وقلاعهم التي لازالت معالمها شاهدة بإنشادن، فبعد أن ظنوا بأنهم في قلاع منيعة، تمكن الميمونيون منهم، وذلك بملء شباك التبن الكبيرة ، ثم غمرها بالماء ، فاتخذوها ذِرْعا لهم ، فظلوا يدفعونها أمامهم ، بحيث لا يصلهم رصاص المدافعين عن القلعة، ولما اقتربوا كانوا قد هيئوا قططا كثيرة فأشعلوا النيران في أذنابها، تألمت القطط بالنار والتمست الرحمة في الأشواك والسدر المحيط بالقعلة، فشبت نار مهولة، وعلى الذخان ، واختلط الحابل بالنابل،فدخل الميمونيون القلعة، ونالوا من اعدائهم نيلا ذريعا. مسرد أخير وروي أن الحاج بلعيد المغني المعروف ألقى عليه أيت الدليمي القبض، ووضع في المطمورة محبوسا أياما ، فبدأ يغني متوسلا إلى نساء البيت: الحرمة أدبليج نذهب الحرمة ألخاتم نْلفضة الحرمة الشراجم نجاج الحرمة أفوس اللي يفين أتاي فسمعت زوجة الحاكم الدليمي ذلك فتوسلت إليه بحياة رضيعها أن يطلق سراحه ، ففعل، ولما خرج ظل يتغنى بذلك وسارت الأغنية بين الناس.