لا أستطيع أن أصدق ما أسمعه من الحكومة ومن رجالاتها المدبرين الأشاوس، بين الفينة والأخرى، من الادعاء أنهم سيكونون أقوياء بمعارضة قوية، ونقابات قوية. فالواقع غير ذلك بالمرة؛ فالحكومة لا يمكن أن تكون "قوية" إلا إذا أخليت لها الساحة لتدبير الحكم وفق أجنداتها الخاصة، دون شريك "يقلق" مسار تدبيرها العمومي، أو "يشوش" على حساباتها الاستراتيجية، وبدون رادع يدفع غلواءها، أو يكف جبروتها واستبدادها بالمعيش اليومي للمواطن المغربي، عبر الزيادات التي لا تنتهي، وعبر الهجوم الكاسح على قدرته الشرائية، وعلى أجور الموظفين ومعاشاتهم، والقفز على كل الاعتبارات الأخلاقية أثناء اتخاذ القرارات المصيرية الفردية التي تراعي فيها التوازنات الماكرو- اقتصادية، أكثر من مراعاتها للتوازنات الاجتماعية التي تحمي الوجود الطبيعي لهذا المواطن؛ بعيدا عن الاستشارة مع ممثليه، وهيئاته الحامية لحقوقه. نعم .. لقد كانت أولى الاختبارات الحقيقية التي واجهت الصف النقابي مع هذه الحكومة، والتي كشفت ضعفه، وفضحت حجمه الحقيقي؛ القرار الحاسم والنهائي الذي لم تجرأ أي حكومة سابقة أن تُفَعِّله، والمتمثل في الاقتطاع من أجور المضربين. وهو القرار الذي أبان تفعيله عن الحجم الحقيقي للنقابات، خصوصا حينما غامرت بعض المركزيات النقابية التي ظلت تتوهم أن تمثيليتها الوطنية، وحجمها الجماهيري، مما لا ريب فيه. و أن الاستجابات الضخمة التي تتلقاها دعواتها للاحتجاج والإضراب، ما قبل القرار الحكومي إياه، ، حقائق على الأرض لا يمكن الشك فيها، أو ضربها باقتطاع وما شاكل، وهي عنوان صارخ على قوتها التي لاتقهر،.. فأقدمت على الدعوة للإضراب في أكثر من قطاع، فكانت النتيجة؛ ساحات فاضية، وفضاءات خاوية على عروشها، ونسب مخجلة لم تنفع معها عمليات "التسمين " الإعلامي المبالغ فيها. كما كانت النتيجة اقتناع هذه النقابات بحقيقة أن من كانوا يلبون نداءاتها للاحتجاج، من الجماهير الشعبية الغفيرة، لم يكن غالبيتهم بقادر على التضحية بشيء من أجل أي شيء، بل كان غالبيتهم يستزيدون من أيام الإضراب كما يستزيدون من أيام عطل رسمية مُؤَدىً عنها؛ سواءً بسواء !!!. لقد ظللنا نقولها دائما: إن النضال تضحية، وإن المناضل الذي لا يقدر أن يضحي لا يمكن أن يعتمد عليه في انتزاع الحقوق، ودحر الفساد والاستبداد. فرغم الحرج الشديد الذي وقعت فيه المركزيات النقابية إزاء هذا القرار الحاسم في حق من يريد أن يمارس حقه الدستوري في الاحتجاج، فإن الجميل في هذا القرار أنه فضح الامتداد الشعبي الوهمي لهذه المركزيات، كما حدَّ بشكل كبير من الفوضى التي عرفتها الساحة الاحتجاجية خلال العقد الأخير. وذلك حينما ظلت الاستجابة لنداءات الإضراب تعرف أرقاما قياسية، بل أكثر من ذلك، أصبحت بعض النقابات المُحدَثة، التي لا تاريخ لها، ولاوزن، تدعو للإضراب فتجد لها أنصارا بالآلاف ومن كل الفئات والهيئات؛ بل أصبحت تزايد على المركزيات ذات التمثيلية، وتطالب بحقها في مقعد في الحوار مع الحكومة. ولولا هذا القرار "المجحف"، بلغة النقابات، لظلت هذه الدكاكين المحدثة تبيع الوهم للشغيلة، وتتاجر بآلامها، لسنوات قابلة. فالحكومة لم تكن ولن تكون أبدا مستأسدة إلا بوجود نقابات ضعيفة، تستقوي من تشرذمها، ومن خلافاتها التي لاتنتهي، لتنزيل قراراتها اللاشعبية في أريحية، وبعيدا عن التشويش والرفض . والادعاء بأن الحكومة تتقوى بالنقابات القوية، غير صحيح. وإلا كيف نفسر نجاح الحكومة في تمرير قراراتها الأشد إيلاما، والأفظع هتكا للمعيش اليومي للمواطن، وإصرارها العجيب على تنزيل مقترحاتها المنفردة حول إصلاح التقاعد (الرفع من سن التقاعد + الرفع من نسبة الاقتطاعات من الأجور)، بل وقفزها على كل الأعراف الديمقراطية التي تُعملها الحكومات الديمقراطية التي تحترم نفسها ومواطنيها، والمتمثلة في إشراك الفرقاء الاجتماعيين في القرارات التي تهم من يمثلونهم (آخرها قرارها بتحويل البث في ملف إصلاح التقاعد إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي دون الاستشارة مع المركزيات النقابية؟؟؟ !!!). دون أن تجد لها محتجين شرفاء – لا كائنات هزلية تستعرض عضلاتها الخطابية في البرامج التلفزية التي لا يشاهدها أحد، أو تحت قبة برلمان أشبه بالبهلوان ! - يلهبون الشارع، ويخيرونها بين العدول عن قراراتها، أو الرحيل. فمادام الشارع لا يحرك ساكنا، ومادامت النقابات لا تبرح دكاكينها المجمدة، وتعيش على فتات الدعم الحكومي لا على مساندات الجماهير الشعبية، ومادامت رؤوس الريع النقابي لا زالت تتحكم في أنفاس النقابات، وتزايد بها على الحكومة من أجل مصالحها البرجوازية الضيقة، ومادامت الشغيلة قد فقدت الثقة فيمن يمثلها لدى صناع القرار في هذا البلد؛ فلا ننتظر من هذه الحكومة إلا المزيد من الإجهاز المريح على الحقوق، والهجوم الآمن على القدرة الشرائية. فالنقابات مدعوة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، للتصالح الحقيقي مع الجماهير الشعبية، وتقديم النموذج الحي والصادق من مناضليها، وقياداتها، والقطع مع أساليب "اتشلهيب" والزبونية" وبيع الذمم، والريع النقابي،... فبهذه المصداقية المفتقدة ستستطيع النقابات أن تعيد للمشهد النقابي بعضا من وهجه الذي انطفأ منذ بدأ داء التشرذم والتفريخ يدب في أوصاله، ومنذ بدأ معه الصراع نحو الكرسي، ومن أجله، غاية النضال ومرماه. فعلى النقابات أن تعي جيدا أن هذه المصداقية هي رهانها الوحيد الذي ستسترد به بعضا من ثقة الجماهير الشعبية، التي كانت دائما الداعم الرئيس للحوارات الناجحة، والنضالات المؤسسة. إذ إن هذه الجماهير الشعبية هي وحدها القادرة على فرض التغيير، و هي وحدها القادرة على انتزاع الحقوق، وحماية المكتسبات. أما سوى ذلك، فعبثٌ، ولعبُ أدوارٍ ليس غير.. ! دمتم على وطن.. !