"كمهندس، طالما أملك القدرة والوسيلة لإراحة الناس فإن الله لن يغفر لي مطلقاً أن أرفع الحرارة داخل البيت 17 درجة مئوية متعمدا" . " هناك 800 مليون نسمة من فقراء العالم الثالث محكوم عليهم بالموت المبكر بسبب سوء السكن، هؤلاء هم زبائني." حسن فتحي ذات مساء، في العاشرة ليلا، و بدون حماسة، بدأت قراءة كتاب حسن فتحي الشهير "عمارة الفقراء"... و دون أن أدري وجدتني ألتهمه التهاما حتى الخامسة صباحا.. و منذ ذلك اليوم، حاز حسن فتحي الإنسان قبل المهندس على جزء من ذاكرتي و مخيلتي.. تجربته الفريدة، عناده، مواقفه المثيرة، نضاله من أجل أفكاره حول الهندسة، إحساسه بالفقراء و إيمانه بالدور الذي يجب أن يلعبه المعمار لتحسين عيش الفقراء، تعبيره و برهنته بتصاميمه الجميلة أنه من الخطأ أن يرتبط الفقر في أذهان الناس بالقبح و أن يحرم الفقراء من مزايا الجمال... لقد آمن حسن فتحي أن العمارة ليست فقط مجموعة من الرسومات و لكنها أفكار، مبادئ و التزامات اجتماعية و إنسانية و بيئية. انطلق حسن فتحي من فكرة أن تقديم الدولة الدعم المادي للفئة المعوزة ليس هو الحل الأمثل لأزمة السكن، بل يجب التفكير في حلول جذرية لا ترهق ميزانية الدولة. فكر أن أبناء قريته لم يعانوا في الماضي من أزمة السكن لأنهم كانوا يعتمدون على المواد المحلية و تقنيات تقليدية تكاد تنسى...أفليس صحيحا أنه طيلة سنوات و قرون ظل الفلاح في مصر وفي دول العالم يستثمر بحكمة و هدوء المواد المتوفرة لديه كالطين أو الحجر لبناء مسكنه. قد تكون هذه البيوت ضيقة مظلمة و قذرة و غير مريحة، و لكن من المؤكد أن هذا ليس بسبب مواد البناء المعتمدة، فوحده التصميم الجيد هو القادر على إصلاح العيوب الوظيفية للمبنى. وهكذا أخذ حسن فتحي يهتم بتصميم منازل ريفية من الطوب كما ألقى عدة محاضرات في الموضوع. بيد أن هذه المنازل الريفية المصممة بالطوب و إن كانت جميلة و مريحة إلا أنها لم تكن أرخص كثيرا من المنازل المبنية بالإسمنت المسلح و السبب أن الجدران وحدها التي كان يستطيع بنائها بالطوب أما الأسقف فكان يستعمل فيها الخشب و هو غالي الثمن. حسن فتحي كان يدرك أنه لم يحقق بعد الحلم الذي ظل يلازمه منذ طفولته المتمثل في التغيير الإيجابي لأسلوب حياة الفلاح المبتلي بالفقر... كما كان يعرف أن الجواب يوجد عند أجداده القدماء الذين بنو منازلهم دون أن يستوردوا الحديد أو الخشب. فبدأ حسن فتحي رحلته المعمارية الدءوبة يجوب و يجول في قرى و أرياف مصر النائية عله يجد عامل بناء ما زال يستعمل التقنيات القديمة للتسقيف بالطوب و حده و يتقن بناء قبة. و بعد طول بحث تعرف على المعلم بغدادي أحمد علي.. و تعرف العالم على حسن فتحي... نجحت التجربة و استطاع حسن فتحي بتصميمه و إنشائه كوخا لصديق له ب 50 جنيها فقط أن يبرهن بالملموس إمكانية تصميم منازل للفقراء جميلة و رخيصة. و لكن بقي له أن يقنع الحكومة و الناس بتصاميمه و حلوله الهندسية. شاءت الأقدار أن يكتسح الفيضان قرية في أرياف مصر تسمى "عزبة البصري"، فقدم حسن فتحي خدماته للجنة الهلال الأحمر لإعادة بناء العشرين بيتا المهدمة و اقترح ميزانية تقدر ب 3000 جنيه. و من اجتماع إلى اجتماع، و من قرار إلى قرار... و من اقتراحات و اعتراضات...و كان واضحا أن اللجنة لن تتفق... طلب حسن فتحي 150 جنيه لبناء منزل نموذجي حتى تقتنع اللجنة بالملموس. فوافقت أحد الأعضاء – حرم عبود باشا- منحه المبلغ المطلوب من مالها الخاص.. و بعد أربعين يوما كان المنزل النموذجي قد اكتمل... منزل جميل و أنيق كلف 162 جنيها... بعد هذا النجاح الباهر كان حسن فتحي ينتظر من رئيسة اللجنة أن تعهد له ببناء المنازل المتبقية و لكن بدل ذلك، اعتذرت له بدعوى أن اللجنة لها مهندسها الخاص و هو من سيتكلف بالمشروع. بل حتى منزله النموذجي تم هدمه بدعوى أنه لا ينسجم مع المنازل التي بناها مهندس اللجنة. و في وقت لاحق، اكتشف حسن فتحي أن صف المنازل الخرسانية التي بنيت بدل منزله النموذجي كلفت 22000 جنيه... !! رغم أن المنزل النموذجي كان عمره صغيرا إلا أنه أثر على أشخاص كثيرين و مكنه من إنجاز بعض المشاريع للخواص. كما أنه كان بوابة لإنجاز مشروع سكني رائد "قرية القرنة الجديدة" الذي سيفتح أبواب العالمية و الشهرة على مصراعيهما لحسن فتحي الملقب بشيخ المهندسين العرب، حيث سيصبح أول معماري فائز بجائزة نوبل البديلة و أول فائز بجائزة الأغاخان للعمارة كما سيلقبه الاتحاد الدولي للمعماريين سنة 1984 بأحسن مهندس معماري في العالم. بدأ مشروع قرية القرنة الجديدة بسبب سرقة أحد المقابر الأثرية . ففي مصر كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، تعد مصلحة الأثار من بين أهم المصالح الحكومية، و كانت المصلحة قد نال منها فضيحة كبرى بسبب سرقة مآثر نفيسة. و حيث أنه كان معلوما أن سكان قرية القرنة يمتهنون سرقة وبيع الأثار بحكم موقع القرية القريب من المقابر الأثرية، فقد تقرر، لتهدئة الضجة التي حصلت، ترحيل سكان القرية و بناء مشروع قرية القرنة الجديدة بعيدا عن المواقع الأثرية....و تم تكليف حسن فتحي بإنجاز هذا المشروع الضخم نظرا لصيته في بناء منازل رخيصة و جميلة... مصلحة الأثار ما كان ليخلد ببالها أنه إذا كانت قرية القرنة القديمة قد بنيت في موقع أثري فإن قرية القرنة الجديدة ستصبح نفسها آثارا معماريا يدج إليه المهتمون و السياح من كل صوب ليلتقطوا صورا لها و معها... أحس المعماري حسن فتحي أن هذه هي فرصته لإبراز أفكاره بشكل عملي يفحم كل معارضيه و كل من تجاهلوا أفكاره الهندسية. فطرح المهندس حسن فتحي حلولاً جوهرية أهمهما: قيام الأهالي بالبناء بأنفسهم لأنفسهم عن طريق التعاون التقليدي، وإخضاع علوم الهندسة والتكنولوجيا الحديثة لاقتصاديات الأهالي ذوي الدخل شديد الانخفاض، بما يسمح بإيجاد مسكن يتفق مع هذا الدخل عن طريق تطوير البناء بالمواد المحلية. كان من المفترض أن يحظى حسن فتحي وعمارته بالتشجيع و لكن بدل ذلك كان يحارب بشراسة من قبل الحكومات البيروقراطية وأصحاب المصالح والذين لا يهمهم شأن الفقراء، ومن المقاولين الانتهازيين وتجار مواد البناء وحتى من المعماريين الأكاديميين. ويلخص( ويليام ر. بولك ) رئيس معهد أدلاي ستيفنسون للشئون الدولية تجربة حسن فتحي قائلاً:" و الدكتور حسن فتحي و هو يخوض الصراع مع مشاكل الفقر الطاحن، و يخوض الصراع مع البيروقراطيين فاقدي الإحساس، و مع أناس كئيبين بلا مهارات فإنه أعطانا ليس ققط الإجابة بل أعطانا الإلهام أيضا. وما يقترحه الدكتور فتحي هو شكل جديد من المشاركة، أما ما ينبغي أن يُسهِّم به الفقراء في هذه المشاركة فهو بالضرورة عملهم، كما يمكنهم في كثير من أنحاء العالم أيضًا أن يحوزوا بلا تكلفة جوهرية مادة بناء واحدة ممكنة هي التربة التي تحت أقدامهم، وبهذين الشيئين - العمل والتربة - يمكنهم أن ينجزوا الشيء الكثير، على أن هناك مشاكل تقنية ومشاكل أخرى لا يستطيعون حلها بأنفسهم، أو هي عرضة لأن يتم حلها بطرق مكلفة أو قبيحة أو غير سليمة، و هنا فإن المهندس المعماري يستطيع أن يقوم بإسهام رئيسي... فبدون مساهمة المهندس المعماري تكون المباني قبيحة غير سليمة و / أو غالية. و بدون تعاون الناس فإن المشروع يصبح غير محبوب فلا يرعونه. و مما يثير السخرية أن معظم مشاريع الإسكان العامة في العالم الآن تتم بدون تعاون لا من المهندس المعماري و لا من الناس. فهو إسكان بقرار بيروقراطي يقوم المقاولون ببنائه، سواء كان الإسكان يمتد أفقيا أو رأسيا، فإنه غالبا يصبح في التو حيا من الأحياء الفقيرة. و لعل منتهى السخرية في عصرنا كما يذكرنا الدكتور فتحي، أن إنتاج هذا الشكل من القبح مكلف أكثر التكلفة، و أننا في النهاية سوف نتجه إلى الإسكان الأفضل و الأجمل لأننا ببساطة لا نستطيع تحمل ثمن أي نوع آخر من الإسكان..." و أنا أقرأ كتاب "عمارة الفقراء" كنت أنتظر أن ينتهي الصراع بأن ينتصر حسن فتحي - على غرار أفلام الأبيض و الأسود- و أن يحقق حلمه الثوري في توفير المسكن الصحي والرخيص لأفقر الفقراء من المصريين وربما لفقراء العالم أجمع... الفصل الأخير الذي كان يشرح فيه أسباب فشل مشروع القرنة أعدت قراءته عدة مرات.. ليس لأفهم أسباب فشله و لكن لأصدق أولا بأن مشروعه فشل حقا.. شككت في فهمي وفي فرنسيتي لأنني لم أستطع أن أتقبل أنه بعد كل المجهودات الجبارة و الخيالية و بعد كل التحديات التي واجهته سيختار حسن فتحي الانسحاب و التخلي عن مشروعه و الهجرة خارج مصر، ليطبق أفكاره في عمارة الفقراء على أثرياء من الإمارات و وواشنطن و اليونان.