1 قبل ثلاث سنوات، نشرت في هذا الموقع مقالا حول موضوع "الكريمات"، وكان جزائي لقاء ذلك سنتيْن من السجن النافذ، مع غرامة بقيمة 5000 درهم، قبل أن تلغى المتابعة في مرحلة الاستئناف، بسبب ضغط الصحافة، والمنظمات الحقوقية، والرأي العام (أغتنم الفرصة لأجدّد شكري الجزيل لكل الذين ساندوني). اليوم يعود هذا الملف ليطفو على السطح من جديد، بعدما فتح وزير التجهيز والنقل كوة صغيرة في الجدران التي تحجب عن الشعب المغربي ما يجري في غابة اقتصاد الريع والفساد، غير أنني لن أخوض في هذا الموضوع، لأن زملاء آخرين كتبوا عنه ما يكفي، وسأخصص هذا المقال لموقف علماء الدين المغاربة من هذه الفضيحة. 2 أول هؤلاء بلا منازع، هو الشيخ عبد الباري الزمزمي، الذي لم يكن يحسب ربما، أن الأيام ستكشف للرأي العامّ المغربي، أنه واحد من الذين حظوا بنصيبهم من كعكة اقتصاد الريع، لذلك صوّر مقطع فيديو، يردّ فيه على الذين انتقدوه، واصفا نشر لائحة المستفيدين من مأذونيات النقل ب"العبث" و "العمل الغوغائي"، ويبرر حصوله على رخصة نقل بكونه لا يملك موردا ماليا قارا يمكنه أن يعيش منه، وكأنه لا يعرف أن من يريد أن يكسب لقمة عيشه عليه أن يعري على سواعده، كما يفعل ملايين المغاربة، عوض أن يتوسل "إكراميات" الدولة. 3 إذا كان الشيخ الزمزمي، يقول بأنه لا يملك موردا ماليا قارا، فليسمح لنا أن نقول له بأن القانون المنظم لمعاشات نواب البرلمان، يقضي بحصول كل نائب قضّى ولاية برلمانية واحدة على 5000 درهم كمعاش، أفليس هذا المعاش كافيا كي يعيش الإنسان حياة كريمة يا شيخ؟ ألا تعلم أن آلاف الجنود الذين أفنوا أعمارهم في السهر على حماية الوطن، وضحوا بأرواحهم في الحروب لا تصل معاشاتهم إلا إلى 1000 درهم في الشهر، وعندما يموتون تحصل أراملهم على "معاشات" قد لا تصل حتى إلى 500 درهم؟ وهناك ملايين المغاربة الذين معاش لهم أصلا، ومع ذلك يعيشون بصبر أيوب. أفليس هؤلاء أولى بهذه الرخص يا شيخ؟ 4 يقول الشيخ الزمزمي بأنه عندما تقدم بطلب الحصول على مأذونية النقل إلى الملك لم يكن ينوي الترشح مرة أخرى للانتخابات البرلمانية، لكنه تراجع عن هذه "النية"، وترشح، وخسر، بعدما قال للناخبين في مقطع الفيديو الذي نشره قبل الانتخابات بنوع من التعالي "إذا لم تعجبكم فتاويَ فلا تصوتوا عليّ"، وذلك ما حصل فعلا، حيث فقد مقعده في البرلمان، رغم أنه كان من أوائل الذين دفعوا ملفات ترشيحهم، وراء ياسمينة بادو التي قضت أمام عمالة أنفا الليلة في العراء، فيما جاء الزمزمي بعد الفجر. فهل كان الزمزمي سيمتنع عن الحصول على هذه المأذونية لو فاز في الانتخابات؟ يقول الشيخ الزمزمي أيضا بأن من حقه أن يستفيد من مأذونية النقل، وأن ذلك جائز شرعا، غير أنه يعود ويصف نشر لائحة المستفيدين من هذه الرخص بالعمل العبثي، ويقول بأن ما يهمّ حزب العدالة والتنمية من خلال هذه السلوكيات، هو كسب قلوب المغاربة. طيب، إذا كان من حقك يا شيخ (كما تدعي)، أن تحصل على رخصة النقل، فما الذي يزعجك إذن، من نشر هذه اللائحة؟ إنني لا أفهم من كلامك سوى شيئا واحدا، وهو أنك منزعج جدا من هذه الفضيحة، وأنك كنت تتمنى أن يظل أمر استفادتك من رخصة النقل في طيّ السرّ والكتمان، ولكن أضواء القدر الكاشفة نغّصت عليك هذه الأمنية، وإلا لما اضطررت إلى الردّ على من ينتقدونك، وهم يعدّون بالملايين، ما دمت تقول بأن الأمر جائز قانونا وشرعا. أما بخصوص سعي حزب العدالة والتنمية إلى كسب قلوب المغاربة، ومن ثمّ أصواتهم في الانتخابات، فهذا من قواعد السياسة، ووصفك لنشر اللائحة بالعمل العبثي هو منتهى الشعبوية والجهل بقواعد السياسة. 6 لا يمكن للإنسان إلا أن يستغرب ويفتح فمه من شدة الدهشة وهو يستمع إلى الشيخ الزمزمي، عندما يقول بأن أي مغربي يحق له الحصول على رخصة النقل، وهذا افتراء على الحقيقة، وإذا قال الشيخ بأنه على حق، فما عليه سوى أن يسأل مئات المغاربة غير المحظوظين مثله، الذين دفعوا ملفات الحصول على رخص النقل منذ عقود، عن مصير هذه الملفات، وسيجيبونه بأن المطاف انتهى بها في أقسام الأرشيف داخل العمالات. فبالله عليك كيف تجرؤ وتدّعي بأن من حق المغاربة جميعا أن يحصلوا على هذه الرخص؟ أوَ ليس هذا تملقا للسلطة، وتزييفا للحقيقة ما كان لعالم دين أن يسقط فيه؟ 7 ندرك جيدا أن الذي أزعج الشيخ الزمزمي، هو أنه رجل دين، أي أن المغاربة يزِنون أعماله وتصرفاته بميزان شرع الله، وهنا نتساءل: ما موقف علماء الدين المغاربة من هذه الفضيحة، وتحديدا علماء المجلس العلمي الأعلى؟ هؤلاء الذين نشروا بيانا عقب تعديل الدستور، يشيدون فيه بالدستور المعدّل، ويباركونه، ويعدّدون مزاياه... نريد أن نعرف موقفهم من هذه الفضيحة، لكن بلا أمل، لأننا ندرك مسبقا، ألا حول لهم ولا قوة، أو هكذا ارتضوا لأنفسهم، وندرك ألا أحد منهم يجرؤ على وضع أصبعه في عش الدبابير، ولا يفتحون أفواههم إلا عندما يريدون تمجيد الدولة، وبعد ذلك يغلقونها ويصمتون، صمت الموتى الراقدين في القبور، رغم أنهم حفظوا ولاشك، الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّ الساكت عن الحق شيطان أخرس. 8 لكن، ولحسن الحظ، هناك علماء، معدودون على رؤوس الأصابع، يستطيعون الجهر بالحق، دون أن يلوكوا ألسنتهم مئات المرات كما يفعل الآخرون، ودون أن يغلقوا أفواههم إلى حين تلقي الضوء الأخضر بالحديث، وعلى رأس هؤلاء، الشيخ عبد الله النهاري، الذي قد نختلف معه في كثير من أفكاره، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر بأن الرجل لديه شجاعة كبيرة، في الخوض في ما لا يستطيع الكثيرون الخوض فيه، ويواكب ما يجري على الساحة السياسية، ويدلي برأيه ورأي الشرع دون أن يخاف لومة لائم، لذلك يزداد الاحترام نحوه من طرف الناس، فيما الآخرون يفقدون يوما بعد يوم ما تبقى لهم من مصداقية. 9 إذا كان الشيخ الزمزمي، يعتبر الحصول على مأذونية النقل حقا مشروعا، فما عليه سوى أن يشاهد مقطع الفيديو الذي نشره الشيخ النهاري، ويستمع إلى ما يقوله الشرع، بلا مجاملة، حيث قال بأن هذه "الإكراميات"، التي يدعي الزمزمي أنها حق مشروع، هي بمثابة رشوة، وغِلّ من بيت المسلمين. اسمع يا سيّد زمزمي، إنها رشوة. نعم رشوة. لأن من يقوم بعمل ما، حسب الشيخ النهاري، يجب عليه ألا يأخذ هدية ولا منحة ولا إكرامية، أيا كانت الخدمات التي قدمها للوطن، واستدلّ على كلامه بأدلة من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية الشريفة، وكان كلامه مقنعا جدا، فيما كلامك أنت كان مجرد تبريرات غير مقنعة حتى للأطفال الصغار. إن أسوأ ما في هذه "الإكراميات"، هي أن المخزن يشتري بها الصمت، أو يشتري بها الولاءات، والذمم، كما قال الشيخ النهاري، لذلك نفهم لماذا يغلق كثير من المثقفين والفنانين والرياضيين وعلماء الدين أفواههم، وأكبر مثال على ذلك ما صرحت به إحدى الفنانات المستفيدات من رخص النقل، عندما قالت لإحدى الصحف: "أنا راني ماشي غير فنانة عادية، أنا راه بنت المخزن". كيف نريد من هؤلاء الفنانين والمثقفين والرياضيين وعلماء الدين أن يكون لهم رأي محايد؟ وموقف مستقل؟ وهم أصلا "مستعمرون" من طرف المخزن، ومتى كان للعبيد أصلا رأي ولا موقف؟ 11 إن المطلوب الآن من حكومة السيد بنكيران، هو أن "تكمل خيرها"، وتتسلح بجرعات إضافية من الشجاعة، وتكشف عن لوائح المستفيدين من باقي الرخص (مأذونيات سيارات الأجرة، ورخص الصيد في أعالي البحار، ومقالع الرمال والحجارة..)، ثم الانتقال إلى الخطوة الأكثر أهمية، وهي نزع هذه الرخص من كل من لا يستحقها. نعم، هذه الرخص يجب أن تنتزع من هؤلاء، فالحكومة تعرف أسماءهم، وتعرف حالتهم الاجتماعية، وهم على كل حال أغنياء جدا، وتعيد توزيعها، وفق قانون واضح، يقتضي إيجارها للمهنيين بشكل مباشر، كي تذهب عائداتها إلى خزينة الدولة، عوض جيوب هؤلاء المستفيدين الجشعين، فاقتصاد الريع يضيع على خزينة الدولة 20 مليار درهم سنويا، وهو مبلغ "ما يجمعو غير الفم"، وإذا لم تلجأ الحكومة إلى هذا الخيار، فسيكون عمل السيد عزيز الرباح مثل عمل الطبيب الذي كشف على مريضه، وعرف نوع مرضه، لكنه لم يقدم له علاجا، ولا حتى وصفة دواء. [email protected]