دخان الحرب الدائرة رحاها بين حزب الاستقلال، بزعامة شباط، وبين حزب الأصالة والمعاصرة، بزعامة الهمة، لا يجب أن يحجب عنا العلاقة «التاريخية» والقديمة بين «الزعيمين». فرغم ما يبدو من جفاء بين الهمة وشباط ورغم انحطاط الشتائم المتبادلة بين الحزبين على لسان ممثليهما، فالتاريخ يشهد بأن الهمة فعل كل ما بوسعه عندما كان وزيرا منتدبا في الداخلية، وحتى عندما غادرها، لكي «يسهل» مأمورية شباط ويمنحه «الحماية» التي يحتاج إليها لكي يستمر في موقعه بدون محاسبة. ولذلك فعندما تم تعيين الوالي «عرفة» على فاس بعدما كان كاتبا عاما في وزارة الداخلية، ورفض هذا الأخير التوقيع على مقررات شباط غير القانونية، بدأ الإعداد في وزارة الداخلية للإطاحة به من الولاية وتعويضه بوال جديد مستعد للتوقيع، بعينين مغمضتين، حتى على قرار إعدامه. وهكذا حط الوالي الغرابي بولاية فاس وآثار الطماطم التي قذفه بها المواطنون في العيون لازالت عالقة بجلبابه المخزني. ولأن الوزير المنتدب في الداخلية، فؤاد عالي الهمة، كان يخوض حرب تطهير شرسة في حق بقايا البصري، فقد وضع يده في يد شباط لكي يصفي لصالحه سياسيا، وبالوكالة، أحد أذناب البصري الأوفياء، والذي لم يكن شخصا آخر سوى رفيق شباط في النقابة والحزب، عبد الرزاق أفيلال. وبما أن الوالي الغرابي جاء إلى فاس باقتراح من الهمة، فقد وقع، بوصفه ممثلا لسلطة الوصاية، جميع مقررات شباط غير القانونية التي عرقلها الوالي السابق، بما في ذلك رخص التعمير الاستثنائية التي استفادت منها شركات مقربين من الوالي والعمدة. وليس هذا فحسب، بل إن شباط وأفراد عائلته أصبحوا يتمتعون بالحماية القضائية، حيث إن ابنه نوفل، الذي ارتكب جريمة قتل بعد حادثة سير وتم الحكم عليه بسنتين حبسا نافذا، سيتم منحه البراءة في النقض والإبرام وسيتم تهجيره إلى هولندا بمساعدة الأجهزة الأمنية السرية، وهي نفسها الأجهزة التي أخفت شباط في بيت مدير «الديستي» بعدما أضرم النار في فاس خلال أحداث 1990، إلى أن هدأت العاصفة ووضعت ملفه في الأرشيف بعد أن حكم له أحد القضاة بالبراءة. والعامل الوحيد الذي كان يرفض توقيع مقررات العمدة شباط هو عامل مولاي يعقوب، الذي رفض التوقيع على الاستثناءات المعمارية لشركة «إيدياليستا إموبيليي»، خصوصا مشروعها بطريق عين الشقف الذي كان في دفتر التحملات مشروعا سياحيا، فتحول بقدرة قادر إلى مشروع سكني، وأيضا مشاريع شركة «فتح الجديد» التي يختفي وراءها شباط واحجيرة وكسوس. ولهذا لم يعمر هذا العامل طويلا في منصبه. فكانت حركة التغييرات التي شملت الولاة والعمال مؤخرا مناسبة لكي «يضمص» الهمة «الكارطة» من جديد للوالي الغرابي والعمدة شباط، حتى يستمرا في لعبهما المعهود. وهكذا «طار» العامل «أنيس» بسبب صلابة رأسه وأحيل على التقاعد، وتم تعويضه بالعامل «العلمي» الذي اشتغل مديرا لديوان الغرابي عندما كان عاملا على «اشتوكة آيت باها». ولم يكتف الغرابي بجلب كاتبه العام السابق، بل جلب أيضا «الزيتوني»، رئيس قسم الشؤون العامة، الذي كان يشغل هذا المنصب عندما كان الغرابي عاملا على تطوان. وبمجرد تنصيب العامل الجديد تم التوقيع على جميع المقررات العالقة. هكذا، وضع «الغرابي» رجاله في المناصب الحساسة في المدينة وأحكم قبضته عليها لكي يعبد الطريق لشباط الذي يسوقه الهمة لدى الدوائر العليا كصمام الأمان في فاس ضد صعود الإسلاميين. ولذلك فعل الهمة كل ما بوسعه لكي يجند الداخلية من أجل انتزاع المقعد البرلماني من أحد مرشحي العدالة والتنمية في دائرة «دار دبيبيغ» في فاس لصالح الاتحادي جوهر الذي لم يسبق له أن طرح سؤالا واحدا حول فاس في البرلمان، والذي كان جزاؤه على هذا «البريكول» هو منح صفقات أسفار وحفلات المجلس لوكالة أسفاره التي يسيرها ابنه، وهي الوكالة نفسها التي ظلت تستفيد من صفقات أسفار وزارة الهجرة التي يسيرها محمد عامر، الذي ليس شخصا آخر غير زوج أخت صاحب الوكالة. عندما كان الهمة وزيرا منتدبا في الداخلية، على عهد الوزير الميداوي، كان هذا الأخير الوحيد القادر على إعادة الهمة إلى حجمه الحقيقي كوزير منتدب تخضع اختصاصاته لمراسيم يحددها وزيره. وهذا الوضع كان يزعج الهمة كثيرا، خصوصا أن الميداوي كان يمارس صلاحياته كاملة كوزير للداخلية. فكان أهم ما قام به هو رفضه لجميع الاستثناءات المعمارية التي راسل بشأنها اليازغي، وزير التعمير آنذاك، عبر دورية رقمها 254، عممها كاتبه العام محمد عامر على العمال والولاة. فما كان من الميداوي سوى أن راسل هؤلاء العمال والولاة يأمرهم بعدم الخضوع لمذكرة وزير التعمير، لأن الاستثناءات المعمارية غير قانونية. ولكي يجلب الميداوي عليه المزيد من «النحل»، أعطى تعليماته لمديرية الشؤون القانونية والمفتشية العامة لوزارة الداخلية من أجل إحصاء جميع ملفات رؤساء المجالس الفاسدين من أجل تقديمهم إلى المحاكمة. أما الخطوة التي دقت آخر مسمار في نعشه وأخرجته من الداخلية فكانت مراسلته للمديوري، الحارس القوي للحسن الثاني، من أجل إخباره بوصوله إلى سن التقاعد، فتم التخلي عن خدماته تماما مثلما تم التخلي عن خدماته في وقت سابق عندما كان مديرا عاما للأمن الوطني واتهمه البصري برفع التقارير السرية مباشرة إلى الحسن الثاني، فلفقوا إليه تهمة سرقة صفقة بذلات رجال الأمن. جميع الولاة والعمال يعرفون أن الاستثناءات المعمارية هي بمثابة الكنز الذي يستطيعون بفضله أن يتحولوا إلى أثرياء في ظرف وجيز، فالأمر لا يتطلب سوى توقيع بسيط، وبهذه الطريقة دخل الوالي السابق على مكناس تافيلالت، حسن أوريد، فقيرا وغادرها مليارديرا هو وأفراد عائلته. ولذلك، فمن يعرقل مرور هذا القطار المحمل بالذهب يكون مصيره الإبعاد أو الإقالة. وكل الولاة الذين أظهروا صلابة في الموقف أمام الهمة دفعوا ثمن تصلبهم. ولذلك أصبح أغلب الولاة يفهمون أن وزير الداخلية الحقيقي هو الهمة وليس مولاي الطيب الشرقاوي المنشغل أكثر باقتناء الأراضي والعقارات والضيعات الفلاحية. جهاز واحد ظل، لحسن الحظ، بعيد المنال بالنسبة إلى الهمة، وهو الدرك والجيش. وربما استوعب تابع الهمة، إلياس العماري، الدرس جيدا عندما ذهب إلى العيون في عز أزمة مخيم «أكديم إيزيك»، فاعتقله رجال الدرك واستنطقوه لساعات قبل أن يطلقوا سراحه، مثلما استوعب الهمة الدرس جيدا عندما أعطى تعليماته للطيب الشرقاوي بالتدخل لفض المخيم، فرفض الدرك الامتثال إلى أن تطورت الأمور وحلت الكارثة. هنا ظهر جليا أن وزارة الداخلية، التي كانت دائما كتلة واحدة، أصبحت مقسمة ما بين رجال الهمة من جهة ورجال حسني بنسليمان وابن أخته سعد حصار، كاتب الدولة في الداخلية، من جهة أخرى. ورغم أن أخ الهمة، خريج الأكاديمية العسكرية في مكناس، استطاع أن يترقى في جهاز الدرك بسرعة قياسية مقارنة بالآخرين، بحيث أصبح قائدا لسرية الدرك بأكادير في الوقت الذي لازال فيه ضباط قضوا عشرين سنة في الخدمة غير قادرين على بلوغ هذا المنصب، ورغم مصاهرة الهمة للجنرال بلمقدم، فإن قيادات الجيش والدرك ظلت دائما ترى فيه عنصرا خطيرا يجب الإبقاء عليه بعيدا عن ثكنات الجيش. وحتى عندما تناقلت الجرائد الناطقة بلسان تابعه إلياس العماري أخبارا عن تعرض طائرة الهمة العسكرية التي نقلته إلى أكادير لعطب جعل عجلاتها ترفض الخروج، مما اضطر ربانها إلى البقاء معلقا في الجو لساعتين إلى أن نفد مخزون الكيروزين قبل أن تهبط الطائرة فوق الرغوة التي اكتشفوا أنها غير موجودة في المطار، فإن الهمة لم يصدر عنه ما يكذب هذا الخبر، قبل أن يتضح أن إلياس هو من سربه إلى أصدقائه الصحافيين لكي يرد الصرف للجنرال حسني بنسليمان. واضح أن هناك اليوم انزعاجا كبيرا من النفوذ المتزايد للهمة داخل الأوساط السياسية والمالية والعسكرية، والهمة نفسه شعر بخطورة هذا الانزعاج على مستقبله، ولذلك سارع تابعه إلياس العماري قبل يومين إلى مجالسة عباس الفاسي لتوقيع الهدنة، واتصل بالداودي من أجل عقد لقاء مع بنكيران لتصفية الأجواء، فقد انقلبت الآية وأصبح الهمة يطلب «العفو» بعد أن كان يوزعه على كل من يبحث عن صكوك الغفران. ومن يتحدثون عن العطب الغامض الذي أصاب الطائرة التي أقلته إلى أكادير، ينسون أن هذا العطب هو الثالث من نوعه. فقبل ذلك، انقطع الأوكسجين فجأة في الطائرة التي كانت تقله، فيما توقف أحد محركات طائرة أخرى واستكملت الرحلة بمحرك واحد. خبير حربي كبير اسمه «وينستون تشرشل» قال ذات يوم حكمة عميقة «لا يجب أبدا أن ندير ظهورنا أمام خطر من أجل الهروب منه. عندما نصنع ذلك نضاعف من حجم الخطر مرتين. أما عندما نواجهه بسرعة وفعالية، فإننا نقلصه إلى النصف». لعل أول مواجهة لخطر ونفوذ رجال الخفاء الأقوياء المحيطين بالمربع الملكي هي تقليم أظافر وزارة الداخلية في الدستور الجديد المقترح، وذلك بانتزاع سلطة الوصاية من الولاة والعمال لصالح رؤساء الجهات، أي أنه -بعبارة أخرى- سيتم توقيف قطار الذهب الذي يمر نحو جهات في وزارة الداخلية على شكل استثناءات معمارية. فالعمدة لا يحصل على الاستثناء المعماري إذا لم يوقع له الوالي، والوالي لا يوقع إلا إذا كان لديه ضوء أخضر من الداخلية. إنها، ببساطة، بيت الداء، إذا صلحت صلح أمر البلد كله، وإذا فسدت فسد أمر البلد كله.