كتب أحد الولاة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، يطلب منه مالا كثيرا ليبني سورا حول عاصمة الولاية، فقال له عمر: «ماذا تنفع الأسوار؟ حصنها بالعدل، ونَقِّ طرقها من الظلم». وإذا كان العدل أساس الملك، فإن المتآمرين على الملك والراغبين في تصفية حساباتهم القديمة معه، يعرفون أن الظلم هو الطريق الوحيد للوصول إلى ذلك. واليوم أصبح واضحا أن هناك مؤامرة ضد الملك يستعمل فيها الظلم كأداة للتشويه والإضرار بهدف تقويض أسس الملك ووضعه محط مساءلة. لقد تتبعت بدقة التحركات الخفية لبعض الأطراف داخل جهاز القضاء أياما قليلة قبل الإعلان عن تظاهرات 20 فبراير، واكتشفت أن هناك جهات داخل القضاء تبحث لكي تضع المؤسسة الملكية في واجهة الصراع مع مطالب الشارع. هل هي مصادفة أن تبعث جهات قضائية في خنيفرة، عشرة أيام قبل موعد مسيرة 20 فبراير، استدعاء للمثول أمام المحكمة إلى المحامية التي سبق لها أن رفعت دعوى قضائية ضد حفصة أمحزون، خالة الملك؟ وهل هي مصادفة أن تتحول المحامية من ضحية مطالبة بالحق إلى متابعة متهمة بالضرب والجرح من طرف حفصة أمحزون؟ هل هي مصادفة أن يتحول الشهود الذين وقفوا إلى جنب المحامية إلى متهمين بالمشاركة في الضرب والجرح؟ إن الذين أخرجوا هذا الملف من الأدراج وحولوا الضحية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية، في ظرف حساس جدا يجتازه العالم العربي برمته، والمغرب بشكل خاص، كانوا، بلا شك، يبحثون لكي يضعوا الشارع في مواجهة مع الملك بعدما كانت وسائل الإعلام ستتداول اسم حفصة أمحزون مقرونا بعبارة «خالة الملك»، والدليل على ذلك أن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وبعض الحقوقيين كانوا قد دعوا إلى وقفة احتجاجية أمام المحكمة يوم المرافعة وأعدوا لها الشعارات واللافتات المناسبة. لحسن الحظ أن بعض العقلاء في وزارة العدل انتبهوا إلى برميل البارود هذا الذي يحاول بعض العابثين بأعواد الثقاب إشعال فتيله، فتم إلغاء الجلسة وأعيد الملف إلى أدراجه. طبعا، فإعادة الملف إلى الأرشيف ليس كافيا، بل يجب تحقيق العدل في هذه القضية التي تجمع مواطنة عادية وسيدة تمارس الإرهاب في منطقة خنيفرة بكاملها بدعوى أنها خالة الملك، لأن إنصاف المواطنين المظلومين وكف أذى هذه السيدة المتسلطة عنهم هو أكبر تعبير عن محبة القضاة للملك. بمعنى أن المطلوب اليوم في مغرب ما بعد 20 فبراير هو المحاكمة العادلة، في حق المواطنين العاديين كما في حق الذين يدعون قربهم من الملك وعائلته، وليس حفظ ملفاتهم أو تجميدها. أسبوعا بعد المحاولة الفاشلة لإخراج هذا الملف من أجل وضع المؤسسة الملكية في واجهة الأحداث، سيتم الحكم على خالد الودغيري، الرئيس المدير العام السابق للتجاري وفا بنك، إحدى المؤسسات المالية التابعة للهولدينغ الملكي، بخمس سنوات سجنا إضافية، بعدما كانت المحكمة قد أدانته السنة الماضية غيابيا بعشر سنوات سجنا بتهمة التزوير والنصب. هكذا، يصبح الحكم النهائي الصادر في حق الودغيري هو خمس عشرة سنة. وقد صدر هذا الحكم القاسي والمتشدد، الذي يدين أحد كبار موظفي مجموعة «أونا» السابقين، أسبوعا واحدا قبل موعد 20 فبراير. فهل هي مصادفة أن تتم إضافة خمس سنوات كاملة إلى الحكم الغيابي في حق الودغيري؟ ففي الوقت الذي كان فيه البعض ينتظر طي هذا الملف الذي تتداخل فيه المصالح المالية بتصفية الحسابات الشخصية، رأينا كيف كانت يد العدالة ثقيلة للغاية. ربما لجعل محامي الودغيري، الفرنسي «جاك فيرجيس» المثير للجدل، يخرج عن هدوئه ويتهم المؤسسة الملكية بالوقوف وراء تحريض القضاة على الانتقام من موكله لصالح أحد بنوك هذه المؤسسة. أسبوعا واحدا بعد هذا الحكم القاسي ويومين على انطلاق مسيرات 20 فبراير، ستقوم النيابة العامة بآسفي بإطلاق سراح ابن الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ومتابعته في حالة سراح، بعد اعتقاله في وقت سابق بجناية السرقة الموصوفة ل14 حاسوبا من وسط محكمة الاستئناف، بينما ستبقي شركاءه رهن الاعتقال. وكان التبرير الذي ساقته النيابة العامة لكي تطلق سراح ابن الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف هو أن المتهم قاصر ولم يبلغ سن الرشد بعد، رغم أن رئيس النيابة العامة سبق له أن أرسل المئات من القاصرين المتابعين بتهم السرقة إلى سجن آسفي المدني. والمضحك المبكي في قرار النيابة العامة هو أنها قررت متابعة الذين اشتروا، دون أن يدروا، الحواسيب التي سرقها ابن رئيس المحكمة في حالة اعتقال، بينما قررت متابعة اللص الذي سرقها في حالة سراح. ببساطة، لأن آباء هؤلاء المتهمين ليسوا رؤساء محاكم. والمصيبة أن ابن رئيس المحكمة لديه سوابق أخرى لم تتم محاسبته بسببها وظل حرا طليقا يفلت في كل مرة من العدالة ويحتمي بمنزل والده الوظيفي وبسلطته القضائية، منها تورطه قبل أشهر قليلة في جناية الشروع في تكوين عصابة والسرقة الموصوفة، تلتها قبل أسابيع فقط جنحة حادثة سير على متن دراجة نارية مسروقة بدون رخصة مع إحداث أضرار جسيمة للغير. وإذا كانت العدالة قد صححت، يومين قبل انطلاق مسيرات 20 فبراير، الخطأ السياسي الذي دفعها إلى اعتقال جامع المعتصم ومحمد عواد وإيداعهما سجن سلا ومتابعتهما في حالة اعتقال، فإن الجهات نفسها التي تستعمل القضاء لتصفية حساباتها السياسية سارعت إلى منع الأستاذين محمد العبادي، عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان بمدينة وجدة، والأستاذ حسن عطواني، بمدينة بوعرفة، من دخول بيتيهما اللذين شمعتهما السلطات منذ 2006 بعد اقتحامهما وتخريب وسرقة أمتعتهما الخاصة. والغريب في هذا السلوك هو أن القضاء سبق له أن أصدر أحكاما اعتبر فيها تشميع السلطات بيوت أعضاء الجماعة الإسلامية المحظورة أمرا غير قانوني، وفي الوقت نفسه تسارع السلطات في بوعرفة ووجدة إلى إحاطة بيتي عضوي العدل والإحسان بقواتها كما لو أن البيتين يتوفران على أسلحة للدمار الشامل. وقد كان أجدى بالسلطات توفير قواتها لإرسالها لحراسة البنوك ومؤسسات الدولة والأمن والممتلكات الخاصة التي تعرضت للتدمير والنهب في أكثر من مدينة من طرف المخربين بعد انتهاء مسيرات 20 فبراير. باختصار، ففي ظرف أسبوعين وقعت أشياء غريبة في جهاز القضاء، كلها كانت تسير في اتجاه إعطاء صورة معاكسة للتوجهات التي أعطاها الملك من أجل إصلاح القضاء. والأخطر من ذلك أن بعض هذه الملفات كانت وراء إخراجها نية مبيتة للإضرار بصورة الملكية و«تسليط» أضواء الإعلام الأجنبي عليها. إنها، ببساطة، مؤامرة ضد الملك يحوكها في الخفاء أولئك الذين لا يريدون للعدالة أن تستقيم في هذا البلد، لكي يستمروا في نهب المغاربة وسرقة أموالهم واللعب في ملفاتهم ومظالمهم. فالهدف من وراء «تدبير» فصول هذه المؤامرة كان هو توريط وزير العدل، الذي جاء إلى الوزارة بتعليمات ملكية لتطهير جهاز القضاء، من أجل الإطاحة برأسه، خصوصا بعد أن اكتشف (وزير العدل) أن عملية التطهير في جهاز القضاء لا يمكن أن تتم بوجود مدراء عشش الفساد في نفوسهم إلى درجة أنهم أصبحوا مستعدين لإيقاظ الفتنة في البلاد من أجل المحافظة على مصالحهم. فإصلاح القضاء وتحقيق العدل يعنيان حرمان هؤلاء اللصوص ومصاصي الدماء من كل تلك الملايير التي تدخل جيوبهم شهريا من أموال المخدرات وملفاتهم القضائية التي يسمسرون فيها، والتي مكنتهم من تشييد الفيلات والقصور على هوامش الرباط ومنتجعات الشمال وامتلاك الضيعات والعقارات في أكثر من مدينة وقرية، داخل المغرب وخارجه. لذلك، فإن عجلة الإصلاح في المغرب لن تدور مادامت هذه العصابة الخطيرة، التي يوجد مقرها داخل وزارة العدل والتي لديها امتدادات في كل الاتجاهات، واضعة عصاها الثقيلة في هذه العجلة. إن الذين يعرقلون عجلة العدل اليوم في المغرب يبحثون، ببساطة، لكي يقوضوا أسس الملك ويسهلوا عملية الانقضاض عليه، لذلك فالحل الوحيد لتقوية دعائم الملك هو تحقيق العدل، مهما كلف الثمن. العدل يوفر الأمان للضعيف والفقير، ويُشْعره بالعزة والفخر. العدل يشيع الحب بين الناس، وبين الحاكم والمحكوم. العدل يمنع الظالم عن ظلمه، والطماع عن جشعه، ويحمي الحقوق والأملاك والأعراض ويبعث الأمل لدى المظلومين، ويحسب له الظالمون ألف حساب. العدل يعيد الأمور إلى نصابها، وبه تؤدى الحقوق إلى أصحابها، به يسعد الناس، وتستقيم الحياة. ما وجد العدل في قوم إلا سعدوا، وما فقد عند آخرين إلا شقوا. فاعدلوا خيرا لكم.