في قصة من نفائس تراثنا الشفاهي، مَضمونُها عبرة بليغة، كان الوالد رحمة الله عليه يكررها على مسامعنا، تحكي أن أسرة فقيرة كانت تعيش على الكفاف والعفاف في قرية ضرب الجفاف فلاحتها، حتى بلغ العوز بالناس أقسى مستوياته، ليقرر رب الأسرة الرحيل، بعدما ساءت أوضاع المكان، وفرغت الخوابي من الزاد والمُؤَن. شرعَت الأسرة في جَمع مستلزمات الهجرة دون تحديد الوجهة، وفي ما هم منشغلون بترتيبات السير في أرض الله الواسعة، اخترق سكينة الليل آذان صلاة الفجر، فقصد رب الأسرة الحمّام للوضوء، ثم توجه صوب المسجد بغاية الصلاة، وتوديع أهل القرية. ولما دنا من بيت الله، سمع الناس أثناء الحديث عن أحوالهم مع الجفاف، وقد ذكروا اسمه، فتسمّر في مكانه لبُرهة من الزمن، يستوضح مغزى الكلام! لقد جاء في جُملة ما قالوا في حقه، أن الرجل صار ملاذهم الأخير، من أجل مدّ يد العون والمساعدة، لكونه وعلى مدى مقامه بينهم، لم يسبق له إطلاقا أن اشتكى من مَعسرة، مما جعلهم يحسبونه في ميسرة، أو على أقل تقدير، خارج دائرة الضيق الذي ألمّ بهم! مباشرة بعد ذلك التَحق الرجل بالمصلين، وآزرَهم بصبره وقوة تحمله للإلتفاف حول المصاب الجلل، وبادلهم المواسات بعزيمة وثبات، ما جعله يقرر عدم الرحيل، مقتنعا بالمكوث بين أهل القرية إلى أن يجعل الله لهم من الضنك مخرجا! فليس سواه الرزاق ذو القوّة المتين. عاد الرجل إلى بيته مسرورا برفعة المنزلة، فقد اكتشف للتّو، ومن حيث لم يكن يحتسب، أنه الأجدر بها في قريته! ليزف إلى زوجته بشرى على قدر عظيم من العرفان! استقبلتها شريكة العمر والتضحية بكثير من الارتياح. فمَهما بذلا من جهد في مكان آخر، قطعا لن ينالا مثل هكذا تشريف، منتهى العار هَدرُه، وما كانا ببالغيه، لولا ما صرفاه من صبر وقناعة على طول سنين مَضَت. هكذا هي فصيلة مالين الحوانت، جنس من البشر الصبور والمكافح، اشتغلوا بكد وصبر حتى نحتُوا لهم مكانة إعتبارية في المجتمع، صارت أو كادت أن تبدو كفسيفساء زاهية في تعاضد رَونقها. متينة في تلاحمها، لا يُرجى أخدا بالتصاميم صونها فقط ترميما في حجم ترميم البنيان المهجور، بقدر ما تحتاج من عمق الصميم إلى عرفان يوقض الهمم، ويُغني عن نزوح وهجرة بلا ملامح مُحددة.