لا شك أنه، في أي مجتمع أو حضارة أو دولة، شهدت مرافقها أو مؤسساتها أو إداراتها أو جماعاتها، تقصيرا في خدماتها، أو تبديدا لأموالها، أو إهمالا لطبيعتها، أو استخفافا بأمنها أو أمانها، أو فسادا في أشخاصها أو ضعفا في وزاراتها، إلا و يكون الحديث عن المسؤولية قضية مركزية في تحليلنا، ليس فقط لما ترتبه من آثار مختلفة على الدولة بكل مؤسساتها، بل لأننا وللأسف نعتبرها كرسيا هزازا يساعد على الارتخاء ويجلب النوم والأحلام، وجهازا لتكييف الهواء، ومخدة من ريش العصافير، أو خطابا مزمجرا في وجه الضعفاء والمواطنين، أو ابتسامة ماكرة يوزعها السياسي في كل مناسبة حتى ولو تعلق الأمر بحالة عزاء أو حداد وطني على الكوارث التي صنعت بأيدينا باسم المسؤولية. ليس بهذا المعنى نتغلب على التعوق الاقتصادي، وليس بهذا المعنى نبدد الشك والإحباط الذي يحيط بالمغاربة كل يوم، ويهزمهم في مواقفهم، ويجعلهم يستسلمون لقضاء وقدر، يحتمل أنهم ساهموا في إيجادهما، فالمسؤولية ومعها المحاسبة تقتضي منا أن نتناول تأصيلها الشرعي والدستوري، وإن نقف عند دراسة آليات تفعيلها على أرض الواقع. في تأصيل المسؤولية والمحاسبة: أ- عندما تقلد سيدنا عمر بن الخطاب مسؤولية خلافة إمارة المؤمنين، لم يتردد في إعلان أمر هام لكل المسلمين بمقولة مؤثرة معبرة في نفس الوقت ، عن يقظة ضمير، في خوف شديد من الجليل حيث قال:" لو أن بغلة عثرت بالعراق لخيف عمر أن يسأل عنها يوم القيامة " وكان سيدنا عمر يوجد بالشام آنذاك ومع ذلك جزم بأن المسؤولية هي امتداد في الزمان والمكان، وتخضع للمحاسبة عند رب الحساب. ليست الحاجة التي نعني هنا قيمة أخلاقية أو دينية فحسب، ولا بالضرورة سلوكا مجردا من أسسه أو أبعاده، بل معطى موضوعي نلمس وجوده ببنية مجتمع لا يعتمد الأدعية فقط ولا مباركة أولياء الله الصالحين في خدمة الناس والسهر على مصالحهم، بل يعتمد على سنن كونية بالفعل الإيجابي، والإتقان الجاد، والحزم المطلوب في كل مجالات الحياة، ولو تعلق الأمر بأكبر مسؤول في الدولة، استجابة لما تمليه صحوة الضمير الإنساني، الخاضع للمراقبة الإلهية ،أولا ، المحتكم لضمير الجماعة وقائدها ، ثانيا. أوردنا هذه المقولة لكي تكون مدخلا إلى الحقيقة المرعبة التي تؤلمنا كثيرا، ليس لأنها موجودة، فليس مشكلا أن تكون لدى مسؤولينا هذه الثقافة المبنية على الغش واللامبالاة وشعار "تبكي أمه وما تبكيش أمي" بل لأنها منعدمة وغائبة في برامج التوعية سواء الثقافية أو الإعلامية أو التعليمية عندنا. غائبة إلى درجة أن أصبح رجل السياسية عندنا يصرف الملايير ويتعقب حاجة الفقراء لاستمالتهم، ويصلي نفاقا ورياء في المساجد، من أجل أن يظفر بكرسي جلدي يستمد منه سلطته ، ويمارسها وفق مزاجه ونزواته ويردد شعار "الله، الوطن، الملك " وبحكم هوس المسؤولية. وجموحها الفاسد، تسقط كل المعايير الأخلاقية، من أنفة، وحس وطني، والتزام، وتقوم مكانها معايير لتعليب ضمير الإنسان ولسانه وعقله. وسلخ جلده واستعماله في صناعة الأحذية أو في صناعة الطبول. نعم، أيها السادة ... لم يعد منطق سيدنا عمر بن الخطاب في تحمل المسؤولية هو المتحكم في المناصب، بل المناصب هي المتحكمة في المسئول، وتبيح له كل شيء، بدءا بشراء الذمم ومرورا بتقديم تنازلات وإن تعلقت بالكرامة وانتهاءا بالتملق، ولو تعلق بمسح أحدية أولياء النعم. ولا يمكن في أحيان كثيرة تخيل مقدار الجهد وأحيانا المكر والتخطيط الذي يمارسه المسؤول للظفر بكل الامتيازات التي تخوله الهيمنة على كل شيء، ويرفع كذبا لافتات الأخلاق العامة، أو الإدارة والتخليق أو لا لرشوة، ويستعمل القاموس الغربي، وتعابير الواقعية المستحيلة، وهو عاجز كل العجز بأن يمسح دمعة طفل يتيم يعاني من قصور كلوي. ب- تطرق الدستور المغربي في الباب الثاني عشر للحكامة الجيدة وتحديدا في الفقرة الثانية من الفصل 154 إلى كون المرافق العمومية تخضع لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديموقراطية التي أقرها الدستور. ويبدو أن هذا التنصيص الدستوري ورد تتويجا للخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الثامنة للبرلمان، والذي أكد "أن دمقرطة الدولة والمجتمع، وتحسين مناخ الأعمال يتطلب انتهاج الحكامة الجيدة ، بتفعيل المبادئ والآليات التي ينص عليها الدستور، وعلى رأسها ربط تحمل المسؤولية بالمحاسبة وتخليق الحياة العامة، بالتصدي لكل إشكال الفساد والرشوة والريع الاقتصادي والسياسي والاحتكار وكذا العمل على ضمان تكافؤ الفرص وحرية المبادرة الخاصة والمنافسة الحرة" بهذا المنظور لم تصبح المسؤولية وعدا، أو تصريفا لأحلام مزيفة، ولا شعارات محنطة مثبتة على الحائط، بل هي ذاك الإحساس ذي التو ثر العالي، الذي يلغي كل الضمائر السابقة والأحاسيس المخدوعة المبنية على ثقافة الغش والاستغلال، ويعيد صياغتها من جديد على أساس المحاسبة في كل شيء، أي، تحدث انقلابا حضاريا بكل المقاييس دون عنف ودون تطرف ودون إراقة دماء. بيد أن ما يأسف له، أن القائمين على شؤون هذا البلد، يتقنون فن الترديد والاجترار والتطبيل لكل فكرة ذات حمولة ملكية أو وردت في خطاب ملكي دون تطبيق، وبدل أن يتم الاستغراق في تنزيل ذلك على أرض الواقع يتم الركوب على الشكل دون الجوهر، مع أن للأمر دلالات كبيرة، ومفاهيم قد تصيبهم بالإغماء إذا تم استحضار كل أبعادها الدستورية والسياسية والدينية في علاقتها بالحكامة الجيدة، لذلك لا نستغرب من هذا الدوران المرضي الذي يصيب المغاربة أحيانا ويدفعهم إلى تناول حبات الأسبرين كلما اكتشفوا القاتل وشيعوا القتيل دون إن تطاله العقوبة. وإذا كان المسؤول فينا، لا يستطيع إلا أن يكون مغربيا، فمعناه، ألا يكون وزيرا للنقل، وآلاف المغاربة يموتون في الحوادث، بسبب رداءة الطرق وضيقها، ومعناه أيضا ألا يكون وزيرا للصحة وآلاف المرضى يموتون بسبب الإهمال أو نقص في الأطباء المتخصصين، ومعناه، ألا تكون وزيرا للتعليم وتلامذة المغاربة يتلقون دروسهم بالساعات الإضافية المأجورة، بينما أبناء الفقراء لا نصيب لهم في تعليم خاص أو مشرف، ومعناه، أن تكون مسؤولا على مرفق معين أو منتخب على رأس مدينة وشوارعها مغتصة بالحفر وأزقتها تتعايش مع الظلام... المغرب يهتز كل يوم على وقع حادث مؤلم –انقلاب حافلة – غريق أطفال- حريق عمال- انهيار مسجد- حصار دوار بسبب الثلج- يتم بفعل وزارات الإهمال التي لا تحاسب ولا تحاكم ولا تقدر مسؤوليتها الدستورية والدينية والأخلاقية بمنطق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه . إن المسؤولية بمفهوم الدستور هي المختبر والاختبار، وبها نعرف أن دم المغربي القاطن بجبال الريف أو جبال الأطلس، هو دم حقيقي لا بقعة كوكاكولا. ومن تم فإن المرافق العامة التي أحاطتها المادة 154 من الدستور بمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية هي المرايا التي يرى فيها المغاربة وجوههم بغير طلاء وبغير مساحيق تجميل، إن لخير أو لشر، وبقدر ما يستفيد المواطن من خدماتها بشكل تحفظ الكرامة ويؤمن النفس ، بقدر ما يسلم بأنه فعلا مغربي. إن تمة جدارا من عدم الثقة بين المواطن والمسؤول، بسبب أن هذا الأخير، لا يفارق غطرسته وغروره، ولا يكثرت لكل من حوله ولا يبالي حتى بعمود كهربائي قتل طفلا، ولا حفرة أسقطت امرأة حامل، ولا ظلام أفسد قرية، ولا ماءا تسبب في عطش أناس بسطاء في أرض نائية، ولا طفلا مات بقساوة الثلج الذي يحاصره لشهور، فتكون لا مبالاته هي صك اتهامه وتدفعه إلى أن يحاكم على ذلك تطبيقا لمقتضيات الدستور، أي المسؤولية والمحاسبة، إذ بقدر عظمتها بقدر ما تعظم محاسبتها. إن المسؤولية تستوجب على من تقلدها أن يخوض غمار الديمقراطية بشكل أصولي يحتم عليه أن يقدم استقالته، أو على الأصح يعفي نفسه من منصبه، لمجرد أن تبكينا كارثة بسبب الإهمال، ولمجرد أن علامة تشوير غير مثبتة تسببت في غرق أطفال في ربيع عمرهم، أو حادثة سير مميتة بسبب النزيف. فبقدر ما نقيس الجريمة من خلال ما تحدثه من أثر نفسي واجتماعي على الإنسان، ونطالب بتوقيع العقوبة المناسبة لتحقيق الردع اللازم، نقيس بالطريقة ذاتها الإخلال بالمسؤولية في علاقتها بالمواطنين، التي تستوجب المحاسبة والمحاكمة في نفس الوقت. بعد سنوات من العمل السياسي، وبعد أن تأكد لكل طموح جموح آنس من نفسه، وكفاءته، القدرة على تحمل المسؤولية في هذا البلد، وتبث أن الفشل كان حليفه في أكثر من مناسبة، لا زال الطموح ذاته قائما لدى فئة عريضة من الانتهاز بين والوصوليين الذين يتهافتون على المناصب، فيغدو الأمر إذن على مستوى أرض الواقع، على مستوى قيمة المسؤولية في نظر البعض، على مستوى المحاسبة، تنظير كله، وهراء كله، واستخفاف بالنصوص، وبالحد الأدنى من عقول المغاربة، ولا نتحدث عن الضحايا المباشرين الذين فوجعوا في أبنائهم، فهم يتألمون يوميا ويتمزقون حزنا في كل لحظة. فلو علم هؤلاء أنه بثبوت فساد مالي، يساوي اعتقالهم وجوبا ومحاكمتهم، لما تهافتوا على الاستحقاقات الانتخابية، لو علم هؤلاء، أن أي تقصير في المسؤولية سواء كانت عقدية أو غير ذلك، سيقودهم إلى السجن، لمجرد أن سيارة انقلبت بفعل حفرة، أو طفلا مات بفعل البرد الشديد في أعالي الجبال، لما تجرأ واحد منهم على المشاركة في الانتخابات، إلا من آنس من نفسه القدرة والكفاءة والقوة والأمانة، وذلك انسجاما مع النبي يوسف عليه السلام، عندما دعاه ملك مصر «قال إنك اليوم لدينا مكين أمين، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» الأية 55 سورة يوسف