الفهرس أولا: ما هو التواصل التنموي التشاركي؟ 1- التواصل وليس الاتصال: 2- التنمية بأية رؤية؟ 3- مفهوم المشاركة: 4- تعريف التواصل التنموي التشاركي: 5- مهام ومواصفات منشط التواصل التنموي التشاركي: تعد المشاركة الفعلية للمجتمع المحلي الضمانة الأساسية لنجاح أية مبادرة للتنمية ذلك أنها- التنمية- ليست شيئاً يمكن إحضاره من الخارج، بل هي عملية نابعة من صميم المجتمع خاضعة لظروفه الخاصة وثقافته وموارده وقِيَمِه، ونجاحها رهين باندماج أفراده وجماعاته في صيرورتها. ويستلزم نجاح مثل هذه المشاركة وجود إستراتيجية للتواصل تنظر إليها، في آن واحد، باعتبارها المدخل الأساسي لتحقيق التنمية وإحدى أهم الغايات الكبرى لها. هذه الاستراتيجية هي ما اصطلحنا عليه بإستراتيجية التواصل التنموي التشاركي. في هذه السطور، سنقف عند مفهوم التواصل التنموي التشاركي أولا ثم نعمد لتفصيل خطوات تطوير إستراتيجيته.
أولا: ما هو التواصل التنموي التشاركي؟ يتطلب الفهم السليم لمصطلح التواصل التنموي التشاركي تفكيك عناصره للوقوف على دلالاتها والخلفيات النظرية المؤطرة له.
1- التواصل وليس الاتصال: في اللغة التواصل والاتصال كلاهما من مادة وصل يصل وصلا وصلة الشيء بالشيء: لأمه وجمعه. واتصل بالشيء التأم به. واتصل بي خبر فلان أي علمته؛ واتصل فلان بالوزير: صار في خدمته؛ وتواصل الرجلان: ضد تهاجرا[1]. وفي الاصطلاح، يستعمل مصطلح "الاتصال" عادة للدلالة على مختلف أنشطة نشر المعلومات؛ أي نقل الإشارات من مرسل إلى متلق. و"هنا تظهر سيطرة الرسالة وهيمنة المبلغ ودونية المتلقي" [2]. أما التواصل فهو "العملية التي بها يتفاعل المرسلون والمستقبلون للرسائل في سياقات اجتماعية معينة" . ونحن هنا نستعمل التواصل بدل الاتصال للدلالة على عملية تقاسم المعرفة بين المعنيين المختلفين بقضية تنموية ما للوصول إلى توافق على العمل الواجب اتخاذه إزاءها. إنه فهم وتفهم وتفاهم يضمن المشاركة في صناعة القرار؛ وتفجير للموقف بالإغناء وبالإثارة يفتح الآفاق على الأفكار المبدعة.
2- التنمية بأية رؤية؟ التنمية في اللغة من نمى ينمي نميا ونميا (بتسكين الميم وكسرها) ونماء ونمية المال وغيره: زاد وكثر؛ ونمى (بتشديد الميم مفتوحة) تنمية الشيء: جعله ناميا؛ وأنمى إنماء الشيء: زاده فأنمى هو أي زاد[3]. وفي بداية الأمر، كان ينظر إلى التنمية في شقها الاقتصادي أي باعتبارها مجرد عملية خلق للثروة تثمر رخاء اقتصاديا في المجتمع في شكل رفع لمستويات معيشته؛ غير أنه مع توالي السنين وتقدم الأبحاث تبين قصور هذه الرؤية فظهر مفهوم التنمية الشاملة ليتبعه مفهوم التنمية المستقلة في محاولة لفك الارتباط مع الخارج والدفع بالتنمية للتركيز على الداخل بكل صوره وأبعاده استنادا على قناعة مفادها أن التنمية ليست شيئاً يمكن إحضاره أو فرضه من الخارج، ليطل علينا في هذه الأيام مفهوم التنمية المستدامة في اعتراف صارخ بخطورة تقديم المنفعة الآنية على حساب حقوق الأجيال المقبلة. ونحن هنا إذ نتحدث عن التنمية فإننا لا نختزلها في مجرد حل للمشكلات الاقتصادية؛ بل هي "عملية متكاملة للتوسع في الحريات الموضوعية التي يتمتع بها الناس" [4] على حد تعبير أمارتيا صن. فهي تتضمن علاوة على القدرات الأولية كالقدرة على تجنب كل مظاهر الحرمان، تلك الحريات المقترنة بكون المرء متعلما ومتمتعا بحق المشاركة في تقرير مصير مجتمعه والتعبير عن نفسه[5]. ومن هنا فمدخل "من القمة إلى القاع" الذي يعمد فيه العاملون في التنمية إلى تحديد القضية وطرح المشكلة وخطة التدخل وتنفيذها "نيابة" عن المجتمع المعني يعتبر مرفوضا وغير ذي جدوى إطلاقا. ومهمة المنشط التنموي يجب أن تقتصر على تيسير مشاركة المعنيين بالتنمية فيها. لكن أي مفهوم لهذه المشاركة؟
3- مفهوم المشاركة: إن انجاز أي مبادرة للتنمية بالمفهوم الذي ذكرنا يتوقف بالكامل على الفعالية الحرة للمجتمع المعني بها ومشاركته؛ والمشاركة المقصودة هنا ليست هي الاستشارة "ففي التنمية يجب أن تشارك المجتمعات في تحديد مشكلات التنمية الخاصة بها والسعي لحلها واتخاذ القرارات حول كيفية تنفيذ تلك الحلول" [6]. كما أنها ليست التعبئة، أي مجرد طلب دعم المجتمع لأحد المشروعات الذي يتم تحديده من "فوق" كما قد يتوهم الكثير حتى من الخبراء، فهذا لا ينتج أية نتائج حقيقية على المدى البعيد حتى وإن بدا أن المشروع قد نجح. إن المشاركة التي نعنيها هي تلك التي تفيد اندراج الفرد الفعلي في النسيج العام لعملية التنمية بحيث يشارك وبمسؤولية في صياغة القرار وبناء المبادرة وتنفيذها. إنها المشاركة التي: أ- يضطلع فيها مختلف الأفراد والمجموعات المكونة للمجتمع بالمسؤولية الكاملة عن المبادرة من التحليل إلى التقويم. ب- تتيح المجال "للديمقراطية" وتقر بحق التعبير عن الآراء المختلفة و"تعظمها". ت- تحدد المسؤوليات والالتزامات بشكل واضح. ث- تعتبر المجتمع المحلي بأفراده وجماعاته المختلفة من حيث الخصائص والاهتمامات حتى لا يتخذ قرار باسم المجتمع وهو في الواقع ما هو إلا انعكاس لاهتمامات مجموعة واحدة فقط.
4- تعريف التواصل التنموي التشاركي: الآن وقد بينا الفرق بين الاتصال والتواصل وتبنينا الأخير بما هو أخذ وعطاء واعتراف بالآخر وتقدير له ولمعارفه وكفاءاته؛ وفهمنا أن حقيقة التنمية تمكين الإنسان من الحريات الموضوعية بما فيها حقه في المشاركة الفاعلة في إدارة وتقرير مصير مجتمعه وليست مجرد حل للمشكلات الاقتصادية على الرغم من أهميتها؛ وبعد أن اقتنعنا أن المشاركة يجب أن تكون فعلية وفي كل شيء؛ واستحضارا لهذا كله ومن أجل ضمان تنمية حقيقية يمكننا أن نعرف التواصل التنموي التشاركي على أنه نشاط مخطط له يعتمد من ناحية على عمليات المشاركة ومن ناحية أخرى على التواصل الإعلامي والشخصي هدفه مساعدة الأفراد والمجموعات في مجتمع ما والمعنيين بمشكلة تنموية شائعة على المشاركة الفعلية في تحليلها وتحديد الحلول الممكنة لها، ثم تنفيذ هذه الحلول في شكل مبادرات محلية وتقويمها. إنه عمل يقوم على تيسير تبادل المعرفة والخبرات والالتزامات، وغايته تيسير وضمان المشاركة الفعلية للسكان المحليين في بلورة وتنفيذ المبادرات التنموية. لذا فهو يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية هي: 1. الاعتماد على التفاعل الخلاق بين مكونات المجتمع في إنتاج ونشر المعرفة. 2. اعتبار جماعات المجتمع المحلي بخصائصها ومصالحها وصراعاتها المختلفة. 3. تقدير المعرفة التقليدية المحلية والعمل على تيسير تلاقحها مع المعرفة الحديثة.
5- مهام ومواصفات منشط التواصل التنموي التشاركي: لمنشط التواصل التنموي التشاركي مهام محددة تخدم الغاية من العملية، يمكننا إجمالها في: - تشجيع التفكير "المحلي" في مشكلات التنمية وحلولها. - تيسير الحوار وتبادل الأفكار بين الأفراد والجماعات المختلفة وتطوير التعاون والشراكة محليا. - ضمان التقاسم الحقيقي للمعرفة بين المشاركين المختلفين. - دعم صنع القرار من خلال تيسير الإجماع فيما بين الفئات المختلفة من الفاعلين. - متابعة تطور المبادرة؛ من خلال التأكد من أن الأفعال التي تم اتخاذها تخضع للمتابعة والتقييم. هذه المهام تستلزم منشطا بمواصفات ومهارات يمكن إجمالها في: أ- المواصفات الأخلاقية[7] وهي أساسا: 1- الصدق والأمانة فقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا على الخيانة والكذب" [8]. 2- العدل: فالعادل هو الذي يعدل في حكمه ويسوي بين أطراف القضية. 3- الرحمة: فالرحمة هي بلسم العلاقات مع الآخرين، وبدونها تصبح الحياة جافة وتفقد قيمتها ويصبح التواصل بلا معنى وبلا روح. 4- التواضع، فالشخص المتكبر مهما تعلم من فنون التواصل والتعامل مع الآخرين لن يصل إلى تواصل ناجح، فتكبره سيظل حاجزًا منيعًا بينه وبين الناس؛ ومن لم يكن قادرا على التواصل أنى له أن يساعد الآخرين عليه. 5- قبول الآخرين على ما هم عليه الآن؛ فمن أجل التنمية يبدأ بالتواصل وإقامة العلاقات، والتغيير يأتي بعد ذلك نتيجة. 6- الحلم والأناة والرفق وإلا انصرمت أواصر الأخوة والمحبة ودب الشقاق والنزاع والخلاف. ب- المهارات: تتجلى أهم المهارات اللازمة لمنشط التواصل التنموي التشاركي في: 1. القدرة على تشجيع ونسج التحالفات بين الأفراد والجماعات وتبادل وجهات النظر بينها وهذا يستوجب امتلاك خبرات في الترافع ومناصرة القضايا. 2. القدرة على إدارة المناقشات؛ فمنشط التواصل يعتبر "وسيطاً"؛ وعليه أن يصغي ويشجع مختلف وجهات النظر ويخلق الفرص لتبادلها بين المشاركين وأن يكون حكيماً في استغلال الوقت المتاح مع الاحتفاظ بالمناقشة في مسارها وأن يضمن في النهاية التوصل إلى قرارات حول كيفية تنفيذ الحل الذي تم اختياره. 3. القدرة على تيسير التعلم: فوراء كل عمل تنموي معرفة ينبغي اكتسابها أو مهارات ينبغي تطويرها ويجب على منشط التواصل أن يكون ملما بأساليب ومنهجيات تعليم الكبار وتيسير التعلم واكتساب المعرفة. 4. القدرة على تشجيع وتنظيم مشاركة المرأة وباقي الفئات التي يقع تهميشها عادة ذلك أن غاية التنمية ومدخلها في ذات الآن هو مشاركة كل فئات المجتمع المعني وهذا يتطلب إلماما بمختلف مقاربات التنمية وقدرة على تنزيلها في الواقع. 5. مهارة تنسيق المعلومات ونقصد بذلك تقديم المعلومات في شكل يتلاءم مع خصائص المشاركين في التواصل. فعلى سبيل المثال، المعلومات عن منع التصحر لن يكون لها نفس المدلول لدى الممرضات والفلاحين والجنود والتجار والشباب، والتقنيات الحديثة للزراعة لن يدركها أو يستوعبها فلاح أمي فقير وآخر متعلم وثري بنفس القدر[9]. 6. القدرة على التخطيط وتعديل الخطط في الوقت وبالشكل المناسبين. وفي الحلقة الثانية نعرض لأهم مراحل تخطيط وتنفيذ استراتيجية التواصل التنموي التشاركي.