تكوين المدرسين (ات) وتوظيفهم، والعناية بوضعيتهم الاجتماعية ليست إجراءات إدارية محضة، ولايمكنها أن تخضع للهاجس المالي الجاف، الذي يرهن مستقبل الأجيال المقبلة بإملاءات المؤسسات المالية الدولية الدائنة؛ بل هي جزء لا يتجزأ من النسق التربوي التعليمي البحثي العلمي الكلي في شموليته، وهي أس أصيل في بنائه، ولا يبقى للتربية والتعليم أي معنى من دونها، وهي مبتدأ كل مشروع تنموي حقيقي، وإلا فكل المخططات هواء في هواء! وشعارات فارغة ! إن المدرس(ة) هو المربي والمعلم، وهو حامل القيم وبانيها في شخصية المتعلم صحبة وتأثيرا، وهو المعدل للسلوك ومقومه، وهو حامل المعرفة بسياقاتها، ومبادئها ونظرياتها وقوانينها، وتطبيقاتها إلى المتعلم، وهو الذي يمنحها المعنى بممارساتها الصفية، وهو المنشط والمساعد، والمعالج النفسي والذهني للمتعلم في القسم وخارجه، وهو المحتضن الحاني، والموجه الناصح، والمجدد المبدع ليس في الفصل فقط، بل تصل ثماره إلى الحياة المدرسية والأسرة والمحيط والمجتمع. إن المدرس (ة) في جملة هو صانع الإنسان ومستقبل الوطن وغد البلد ... لذا فهو مقدم على غيره، ويستحق أن يتربع على رأس الأولويات كلها إعدادا وتكريما واهتماما. لا يليق أبدا أن يتخبط المسؤولون على قضية إعداد المدرسين وتكوينهم وتوظيفهم في إصلاحات سطحية جزئية استعجالية. وخير دليل على ذلك تجريب ستة نماذج في التكوين والتوظيف خلال سبع سنوات فقط؛ حيث تم : - اعتماد الانتقاء القبلي لولوج المراكز، والتكوين لمدة سنة ثلثيها تداريب عملية، ثم التوظيف الرسمي بعد اجتياز امتحان التخرج. - بعدها، تم فتح المجال للتكوين عبر اجتياز مباراة الولوج دون انتقاء قبلي. -بعدها، تم العودة إلى نظام الانتقاء القبلي ثم التكوين النظري والعملي، ثم التوظيف بعد امتحان التخرج. - بعدها، تم إصدار مرسومي فصل التوظيف عن التكوين وتقليص المنحة، فعشنا سنة استثنائية كادت توصلنا إلى سنة بيضاء، لولا الاتفاق الموقع بين تنسيقية الأساتذة المتدربين والنقابات والوزارة، والذي لا زال الاحتجاج قائما بشأنه من طرف 150 أستاذا حاملا لشهادة التأهيل التربوي ومحروما من اجتياز مباراة التوظيف، وتشتكي التنسيقية والنقابات من عدم وفاء الوزارة للاتفاق الموقع. وأضاف المرسومين مباراة التوظيف بعد الحصول على شهادة التأهيل التربوي. - بعدها، تم اعتماد نظام التوظيف بالتعاقد مع الأكاديميات دون تكوين قبلي إلا بضعة أيام موزعة خلال العطل تختم بالتصديق على ثلاث مجزوءات للتكوين من أصل عشرة على الأقل، (ثلاثة أيام لمجزوءة تدرس في ثلاثة أشهر!). - بعدها، ثم اعتماد نظام التعاقد مع الأكاديميات؛ حيث يتم الانتقاء في الأكاديميات عوض المراكز، وطبيعة التكوين القبلي نظري مع 4 أسابيع على الأكثر للتدريب "المكتظ"، ويدوم التكوين نصف سنة عوض سنة كاملة،وبعدها توقع العقدة لسنتين قابلة للتجديد كل سنة، بعد اجتياز امتحان للحصول على شهادة التأهيل المهني. اليوم تشهد شوارع الرباط وأمام البرلمان ومقر الوزارة الوصية احتجاج عشرات الآلاف من الأساتذة المتعاقدين مطالبين بتحقيق الاستقرار المهني الضروري للاستقرار النفسي والذهني عبر التوظيف عوض التعاقد، باعتبارهما شرطا وجود للجودة في الأداء، والتجديد في الممارسة، والإنصاف في المعاملة. هذا المطلب يحضى بدعم النقابات التعليمية جميعها، والجمعيات المهنية لرجال التعليم ونسائه، والعديد من الهيئات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وهو مطلب وجد مكانه إلى جانب مطالب نقابية مهنية واجتماعية ونقابية أخرى، وفي مقدمتها الصياغة التشاركية لنظام أساسي موحد ومنصف لنساء التعليم ورجاله، وتحسين البنية التحتية للمدرسة العمومية والرفع من ميزانية التعليم العمومي، والحفاظ على مجانيته، وإلغاء "إصلاحات " نظام التقاعد التخريبية ... هل ستجد هذه الأصوات العالية آذان صاغية، أم سيكون التجاهل والانفراد سيد الموقف ؟ إن الإصرار الذي تقرأه على وجوه المعتصمين، وتسمعه في خطابات الأساتذة المتعاقدين يبدو أنه أقوى ويشي بالاستمرار والتطور.