أن يهديك ذو قلم كتاباً له حديث النشر، فتلك سُنّة سار عليها معشر الأدباء والمبدعين مذ أن كانوا. أمّا أن يهبك أخو ثقة آخر بنات إبداعاته الأدبية وهي لاتزال تحت مخاض الطبع، فتلك لعمري مبادرة لا يفعلها إلّا أديبٌ مثقفٌ أصيل، سخيّ الجانب، ثمين المعدن، صادق السريرة، من طينة الكاتب المفكّر، والمناضل الملتزم، والناشط السياسي والحقوقي، السيد عبد الحميد البجوقي. هكذا أبى هذا الجواد الشهم الكريم إلا أن يُشرفّني بنسخة رقمية من آخر إنجازاته السردية قبل أن تُخرجها مطابع «سليكي أخوين» ورقيّا إلى عموم القرّاء. وهي التفاتة نبيلة تحمل أكثر من دلالة، لاأملك للتعبير عن وقعها الجميل على مشاعري سوى الشكر الجزيل والامتنان الكبير لأخينا وصديقنا عبد الحميد على هذه الثقة الاستثنائية الغالية. تحمل الرواية عنوانا جذّابا يتألف من كلمة واحدة فقط، (الجنيس)، وهي أول مرة يتخلّص فيها المبدع عبد الحميد من العناوين المزدوجة التي طبعت رواياته السابقة. وعلى امتداد فصول الرواية الخمسة والعشرين، يعود الكاتب مرّة أخرى إلى طرق موضوع المنفى والتشظي والاغتراب الذي لازمه طيلة ثلاثيته الرائعة: (عيون المنفى أو المورو خايمي)، (حكايات المنفى أو عبسليمو النصراني)، (موت في المنفى أو المشي على الريح)، وهي الثلاثية التي منحت عبد الحميد البجوقي ما يُشبه التخصّص، بين الروائيين المغاربة الحاليين، في صياغة تجربة المنفى والهُويّة والانتماء صياغة تخييلية جمالية بامتياز. عوالم مضطربة ومتصارعة يعمل الكاتب على ضبط إيقاعها بسرد سينمائي رشيق تتألّف (الجنيس)،حسب النسخة الرقمية التي بين يديّ، من مائة واثنين وستين صفحة. وهذا ما يجعلها على الحدود بين الرواية القصيرة (Nouvelle) والطويلة (Roman). وعبر صفحاتها المتوسطة الطول، تنسج الرواية حكاية «سهيل» و«سهام»، الأخوين اللذين قذفت بهما قوارب الموت من شواطئ أقصى الشمال المغربي إلى أراضي الجارة الإيبيرية، ليجدا نفسيهما في قلب العاصمة مدريد محاصرين بين مطرقة قوانين الهجرة غير الشرعية، وسندان تهمة الاعتداء البدني العنيف على مواطنة إسبانية. حكاية «سهام» وأخيها، ذكّرتني بحكاية «بيانكا» وشقيقها في رواية قصيرة للروائي التشيليني الكبير «روبيرطو بولانيو» تحمل عنوان (حكاية هامشية)، حيث يواجد البطلان المراهقان اليتيمان، داخل السراديب السفلى للعاصمة الإيطالية روما، عالما يسوده الانحراف والجريمة وتبدّل منطق القيم. وعلى الرغم من الاختلاف التيماتي والبنائي والأسلوبي بين روايتي «بولانيو» و«البجوقي»، فإنّ ما يجمعهما دلاليا، هو هذا النزول إلى العوالم التحتية للشخصيات الروائية، والرغبة في استكشاف تلك المناطق المُعتّمة من المصائر البشرية حيث تعمل قوى الشرّ على تدمير الكائن البشري وتجريده من آخر ما تبقّى له من آدميته. رواية (الجنيس) رغم قصرها، فهي غنيّة بتعدّد موضوعاتها (مآسي الهجرة السرية، نضالات الدفاع عن حقوق المهاجرين، التسامح والاستغلال الديني، مواقف اليمين واليسار الإسباني من قضية الهجرة .. )، وتنوّع فضاءاتها (مدريد، الدارالبيضاء، تطوان، مرتيل ..)، وفسيفساء شخصياتها (مهاجرون، سماسرة، ناشطون حقوقيون، محامون، ضباط مباحث، رجال دين ..). عوالم مضطربة ومتصارعة يعمل الكاتب على ضبط إيقاعها بسرد سينمائي رشيق، يعمد فيه إلى تقطيع الحدث المحوري إلى مجموعة من المشاهد واللقطات تكسّر خطية الزمن، وتبعثر تفاصيل الحكاية الواحدة التي على القارئ إعادة ترتيب عناصرها وتوليف أجزائها وفق نسق متجانس يستجيب لمنطق أفق انتظاره . رواية (الجنيس)، وهي تُعيد طرح أسئلة سابقة حول إشكالية المنفى والاغتراب ومعنى الوطن، إنّما تبادر في نهايتها بالإعلان عن انتصار الحب على الكراهية، وميلاد حياة جديدة تخرج من رحم الرحيل والعذاب والموت، لتنطلق في رحاب أوسع تحفُّها المحبة والحرية والكرامة الإنسانية. فهنيئا للمبدع عبد الحميد البجوقي بهذا المنجز الروائي الذي لا يليق سوى بالكبار.