رشيد قنجاع تابع الرأي العام الدولي باهتمام بالغ الاستحقاق الانتخابي الامريكي، كما لو يتابع مسلسل درامي ببعد سياسي وانتخابي طويلين ، لازالت احداثه ومخرجاته تتعاقب يوميا، في ظل اجواء الاستقطاب الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين، استقطاب وتجييش وتهييج وضع البلاد في مفترق الطرق على ابواب انفلاتات امنية وشرخ اجتماعي بارز، زادت من قتامة هذا الوضع ظروف جائحة كورونا بتداعياتها الاقتصادية و الاجتماعية والصحية، ناهيك عن تواثر وتصاعد الخطابات الشعبوية اليمينية والخطابات الهوياتية والقومية الشوفينية التي جعلت مكونات المجتمع في مواجهة بعضهم البعض. ومن هذا المنطلق آثرت تناول الموضوع الانتخابي الامريكي من زاوية دور كورونا في اسقاط الشعبويين الجمهوريين. شكلت جائحة كورونا مستجدا عالميا و امريكيا بامتياز، حيث لم تترك الجائحة بلدا على وجه المعمورة إلا واجتاحته مخلفة عددا من المصابين وأرقاما كبيرة من الوفيات، كانت للولايات المتحدة النصيب الأوفر بل تصدرت العالم من حيث عدد المصابين الذي يقارب احدى عشر مليون مصاب وتجاوز عدد الوفيات مائتين وخمسين الف وفاة . وأمام تحديات هذه الجائحة، ظل العالم يراقب ويتابع الخطوات التي ستقدم عليها الولاياتالمتحدةالامريكية للحد من هذا الوباء الذي لم تشهد البشرية مثيلا له بحكم سرعته في الامتداد والانتشار وبحكم سرعة الفتك بالبشر وبحكم التداعيات التي سبق لابن خلدون أن تناولها في مقدمته بخصوص وباء الطاعون حين أكد " في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن" هذا الوصف والتدقيق الخلدوني في تداعيات الوباء على الامم والشعوب، لم يحظ بأي اهتمام من الادارة الترامبية الامريكية، التي تعاطت معه بتجاهل واستخفاف، وتركت الرئيس دونالد ترامب زعيم الشعبوية، يسيد خطاب الاستهجان والتمييع والفوضى بدل العمل على تسطير برنامج اجرائي للحد من انتشار واستفحال الوباء. حافظ ترامب منذ اليوم الأول للجائحة الى حينه، على خطاب شعبوي وغريب في تعاطيه مع فيروس كورونا، حيث سارع في البدء الى طمأنة الشعب الأمريكي في أولى خطاباته بخصوص كوفيد 19، أن لا خوف من الجائحة ولا يجب التهويل من قدرها ولا ينبغي زرع مشاعر الخوف منها، لأنها بكل بساطة ستنقرض وتزول بحلول شهر أبريل 2020 بسبب ارتفاع درجات الحرارة. وان لا داعي لتوسيع قاعدة الفحص وإجراء الاختبارات، بل ذهب الى أغرب من ذلك حين حث على إمكانية حقن المرضى بمعقمات التطهير مادام جميع المختصين يوصون بأهمية استعمال المعقمات وغسل الأيدي كوسيلة للوقاية من الفيروس، بل أنه ومنذ الوهلة الأولى لوصول الجائحة الى الولاياتالمتحدةالامريكية، فضل دونالد ترامب عدم غلق الحدود البرية والجوية على غرار باقي دول العالم، كما تماطل في فرض الحجر الشامل، مرجحا كفة البعد الاقتصادي على المنحى الانساني ، وكمحاولة منه لفرض هذا المنظور ، دخل في صراع مباشر وعلني مع حكام الولايات الذين اتخدوا وفق الاختصاصات الفدرالية المخولة لهم ودون انتظار او التشاور مع الرئيس اجراءات الحجر الشامل بكل تدابيره المعلومة، ورغم ذلك اعتبر ترامب هذه الاجراءات مع طول مدة الاغلاق اجراءات غير وطنية نظرا للضرر الذي ستلحقه بالاقتصاد الامريكي ومكانته على الصعيد العالمي، وانه لا بديل عن فتح المجال للاقتصاد وفتح المدارس في وجه الاطفال، بل الادهى من ذلك دخل دونالد ترامب بنرجسيته و مزاجه الخاص في صراع علني مع كبير ادارة الاوبئة بالولاياتالمتحدة السيد فاوتشي الذي عارض تدابير الرئيس للجائحة، مما عرضه للاقالة و تعويضه بدكتور مختص في قراءة صور الاشعة و لا علاقة له بعلم الاوبئة، كما اصر ترامب طيلة هذه الجائحة على الظهور في لقاءاته و انشطته دون ارتداء الكمامة ودون الحرص على التباعد الجسدي، بل دهبت به شعبويته إلى الالحاح في الطلب من أحد الصحافيين في إحدى ندواته الصحفية بخلع الكمامة إن اراد طرح السؤال عليه. لم تقف القفشات الشعبوية لترامب عند هذه الحدود ، بل عمد الى نقل الصراع الى داخل أروقة منظمة الصحة العالمية، معتبرا اياها منظمة تخدم اجندة جمهورية الصين الشعبية، وهو الذي اكد وجدد التأكيد ولازال يؤكد ان فيروس كوفيد 19 فيروسا صينيا، مستعملا هذه العبارة بلغة عنصرية مقيتة، مما دفعه الى سحب عضوية الولاياتالمتحدةالامريكية من هذه المنظمة الاممية. - Advertisement - بحكم التقارير اليومية عن الحالة الوبائية التي ترفع الى الرئيس دونالد ترامب، والتي كانت صادمة، اتخذ ترامب منهجا آخرا، تمثل في توجيه الرأي العام الامريكي 1للانشغال والاهتمام بالصراع الدائر بين الولاياتالمتحدةالامريكية وجمهورية الصين الشعبية جاعلا منها عدوا حقيقيا ينبغي التصدي لها و مجابهتها، و هو ما خلق داخليا و خارجيا اجواء مماثلة لما عاشه العالم إبان الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدةالامريكية و الاتحاد السوفياتي و اهمها التجادبات القطبية، اجواء اضفى عليها ترامب سمات التجسس والتخابر المهددين للامن القومي الامريكي ، وذلك من خلال سلسلة من الازمات المتتالية كان عناوينها ازمة هاتف هواوي وتطبيق التيك توك في الهواتف النقالة و اخطرها اعتباره العمل القنصلي الصيني عملا استخباراتيا ترتب عنه ازمة دبلوماسية غير مسبوقة بين البلدين بعدما اصدر ترامب قرارا باغلاق القنصلية الصينية بالتراب الامريكي قابله بندية قرارا صينيا باغلاق القنصلية الامريكية بترابها. و لم يكتف ترامب بهذا المسار ، بل زاد من تأزيم العلاقة مع الصين من خلال التدخل لدعم دعاة الانفصال في تايوان واللعب على ورقة حقوق الانسان التقليدية و المشروخة، و المبالغة في التهويل والتخويف من القدرات العسكرية الصينية. كل ذلك رغبة منه في تطبيق استراتيجية الاحتواء وتنزيلها على الصين وفق نموذج الاحتواء الذي مورس بنجاح على الاتحاد السوفياتي، وهو في ذلك يريد تفعيل شعار التفوق الامريكي الذي صاغه الجمهوري تشارلز كروتهامر في كتابه " عقيدة بوش" والذي ينبني على انه" ليست امريكا مجرد مواطن دولي. انها قوة مهيمنة في العالم اكثر هيمنة من اي قوة اخرى منذ روما. بالنتيجة ، فإن أمريكا هي في موقع يمكنها ان تعيد تشكيل القواعد، وتغيير التوقعات، وخلق حقائق جديدة. كيف؟ بإبراز ارادتها دون تبرير و لا عناء". ان تنزيل هذا الشعار في السياسة الخارجية الامريكية في عهد دونالد ترامب، يجعلنا نفهم العديد من القرارات المتخذة على الصعيد الدولي من قبيل الانسحاب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية المناخ والخروج من الاتفاق النووي ومن مجلس حقوق الانسان والازمة مع المحكمة الجنائية الدولية، كما يجعلنا نفهم التعاطي مع القضية الفلسطينية بعنجهية وتعال و اقصاء، دون اي اعتبارات للمسارات التاريخية والتراكمات الدبلوماسية وتلتفاوضية، ضاربا عرض الحائط كل الاتفاقات السابقة التي تحققت منذ اتفاق اوسلو الذي ارتكز على قاعدة اتفاق الارض مقابل السلام، لينتقل الى تنزيل قاعدة اتفاق جديدة قديمة السلام مقابل السلام، والتي نظر لها كبار موظفي البيت الابيض في عهد جورج بوش الاب والذين عارضوا عملية اتفاق اوسلو، ونصحوا حكومة اسرائيل بالتخلي عنها، و ذلك من خلال ورقتهم لسنة 1996 المعنونة " بالفرصة الاخيرة" ضمن مشروع " القرن الامريكي الجديد"، حثوا فيها حكومة بنيامين نتنياهو الاسرائيلية بالتخلي عن عملية اوسلو و فكرة الارض مقابل السلام والاصرار على السيطرة الدائمة على الاراضي المحتلة، وجاء في الورقة حسب اناتول ليفن في كتابه " امريكا بين الحق و الباطل : تشريح القومية الامريكية" ص 447 " مطلبنا الارض- التي تمسكنا بالامل من اجلها مدة 2000 سنة- و هو مطلب شرعي و نبيل … القبول غير المشروط من العرب بحقوقنا، خصوصا فيما يخص الاراضي، السلام مقابل السلام ، هو الاساس الصلب للمستقبل"، وتعني قاعدة السلام مقابل السلام ، الضغط على الانظمة العربية من اجل القبول بحكم اسرائيل كل اراضي فلسطين، و هو ما تحقق بفضل ترامب من خلال الاتفاق الاماراتي الاسرائيلي البحريني في افق انضمام السودان. عصفت جائحة كورونا بكل الانجازات الترامبية الداخلية و الخارجية ، وخصوصا الانجازات الاقتصادية التي تحققت في السنوات الثلاث من حكم ترامب ، وبشهادة الخصوم قبل الاصدقاء، حيث حقق الاقتصاد الامريكي نموا هائلا تجاوز كل الرؤساء السابقين وخصوصا سلفه باراك اوباما، كما حققت بورصة وول ستريت مؤشرات جد ايجابية وغير مسبوقة، مما انعكس ايجابا على تقليص معدلات البطالة ، الا ان رياح كورونا اتت بما لا يشتهيه ترامب، حيث كباقي الاقتصاديات العالمية، تضرر الاقتصاد الامريكي جراء اغلاق الوحدات الصناعية والخدماتية، وتضررت المقاولات الصغرى والمتوسطة وحتى الكبرى من قبيل شركات الخطوط الجوية وشركات النفط والوحدات الانتاجية التسويقية من قبيل شركات السيارات، وما ترتب عنه من تسريح للعمال وفقدان الملايين لوظائفهم، ناهيك عن انعدام شبكة الامان للرعاية الصحية والاجتماعية بالمقارنة مع ما وفرته بقية الدول المتقدمة، زد على ذلك ارتفاع عدد الوفيات والاصابات بفيروس كورونا في صفوف الطبقات الفقيرة وانتشارها في احياء الامريكيين من اصول افريقية و لاتينية وفي صفوف المهاجرين، زاد من واقع تمزق النسيج الاجتماعي الذي اخرجه للعلن مقتل المواطن الامريكي من اصول افريقية جورج فلويد على يد عناصر من الشرطة، وما افرزه من احتجاجات عمت كل الولاياتالامريكية و ما تولد عنها من اعمال عنف، افرزت تنظيما شعبيا حمل اسم حركة " حياة السود مهمة"، وخلقت في المقابل رد فعل يميني عنصري وجد سندا سياسيا من الرئيس دونالد ترامب الذي ادان حركة الاحتجاجات و وصفها " بالمعادية لامريكا" و ان اعمال العنف التي تخللتها " ارهابا محليا" ، هذا الانقسام اسس لبروز ميليشيات و فصائل مسلحة حيث تشير الاحصائيات الى ارتفاع معدل تسلح المواطنين، حيث بيعت 20 مليون قطعة سلاح في الاشهر الاخيرة. في ضل تداعيات جائحة كورونا ، وامام هذا الانقسام و الاستقطاب المجتمعي ، وفي ظل واقع اقتصادي متضرر، وازمة بنيوية حادة تجلت في التمايزات الاثنية، وامام فقدان البوصلة الامريكية ، وفشل البوثقة الامريكية في تحقيق الانصهار المجتمعي، ومع بداية العملية الانتخابية ، سارع ترامب الى تبني نظرية " سياسة الشيطان" والتي بحسبها هناك قوى شريرة في الداخل و الخارج تتزعمها نخب ليبرالية ويسارية واقطاب اعلامية و حلفاء مزعومين في اوروبا وآسيا، يمثلون الشياطين المسؤولة عن افشال اي تدبير سياسي، وهو بذلك اراد تصدير سوء تدبيره الى الاطراف المتصارعة معه، نظرا لوقوفه على حقيقة وضعه الانتخابي الصعب، في مواجهة خصمه الديمقراطي الذي بدا من الوهلة الاولى يخاطب كل التيارات والتكتلات والمكونات الرافضة لسياسة ترامب ، ويغازل ايضا فئة جديدة كانت غائبة عن المشهد الانتخابي وهي فئة الشباب المستقلين و المسنين المتضررين من الجائحة. وهذا ما دفع بترامب الى التشكيك في العملية الانتخابية قبل بدءها و رفضه لآلية التصويت بواسطة البريد، لعلمه و قناعته وعبر التجربة الانتخابية الامريكية ، أنه كلما كانت نسبة التصويت ضعيفة كانت فرصة الجمهوريين في الفوز اكبر ، وهو ما وقع في نوفمبر 2002 حيث حقق الجمهوريون نتائج باهرة في مجلسي الشيوخ و النواب بمشاركة اقتصرت على نسبة 15% من مجموع عدد المسجلين للانتخابات. ظلت كورونا في تصاعد مخيف في موجتها الثانية، ومرت عملية الاقتراع ، وصوت ما يقارب 100 مليون امريكي عبر البريد في سابقة هي الاولى من نوعها في التاريخ الامريكي بفضل الخوف من الجائحة وتفادي التجمعات ضمانا للسلامة الصحية و ضدا على دعوة ترامب للجمهوريين للتصويت المباشر يوم الاقتراع، وضدا على شعبويته صوت اليهود والسود واللاتينيين الامريكيين بكثافة على الحزب الديمقراطي وبرنامجه الاجتماعي القائم على اقتصاد عادل مع الزيادة في الرواتب والقضاء على الفقر و تحقيق مجانية التعليم والصحة ، وتوحيد المجتمع الامريكي الذي لا تظهر في الافق ملامح توحده، ما دام ترامب وشعبويته وشعبوية اتباعه ترفض نتائج الانتخابات وتريد تحويل الصراع من حقل السياسة الى الشوارع والميادين والمواجهات التي إن بدأت لن تعرف طريقها الى النهاية.