“يبدأ النضج عندما نتوقف عن الشعور بأن علينا الاعتناء بالعالم بأكمله “. -نيكولاس غوميز دافيلا. لقد تعودنا في المغرب وفي العالم العربي أن نتصرف كضحايا للمصطلحات الفضفاضة مثل الفساد والاستبداد والظلامية.. نتناسى أصولنا العائلية وأخطاء الآباء والأمهات والأجداد والجدات واختياراتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتأثيرها علينا، ثم عدم إدراكنا لهذا التأثير وعدم رغبتنا في تغيير أوضاعنا، ثم عدم لوم حالة كسلنا غير المفهوم . طبعا دائما علينا لوم مؤسسة أو مفهوم؛ فنلوم في عبثية الأسلاف والعائلة دون أن ندرك عدم فائدة ذلك، هذه الأيام صارت موضة أن نلوم النبالة الوراثية السائدة وكأنها من تحدد لنا من نختار من الأحزاب أو تحدد لك إفطار الصباح، وهناك من تطرف أكثر ويلوم الله تعالى علوا كبيرا أيضا.. وطبعا هناك من يلوم الطبيعة، وهناك من يلوم الوطن فيحرق العلم، أو يلوم المحبوب أو يلوم فرقة الحي، بقال الدرب، أستاذ الطبيعيات، الفتاة ذات التنورة القصيرة، الخالة من هولندا… المغاربة صاروا مثل أطفال صغار يلومون.. فهل فعلا كان المغاربة هكذا حين تحاور د.عبد الله العروي مع ذ.عبد الرحيم بوعبيد، حين وصف الأخير المغربي بكونه كريما وصاحب عزة نفس وكرامة، وبالفعل كان المغربي يتحمل المسؤولية ويقدر الأخطار والأضرار والأهوال والمصالح والضرورات.. خذ مثلا في السينما : إن أفلام البرتقالة المرة وغيرها من الأعمال التي تؤسس للنفوس الفاشلة والمحطمة، تصنع أشخاصا لا يعتمدون على أنفسهم ولا يتحملون المسؤولية عن القرارات التي اتخذوها في حيواتهم، ولا يعقلون أن العلاقات الإنسانية لا يمكن أن تخضع لسلطان العاطفة.. بل تخضع لسلطان المصالح المشتركة، المعنوية والمادية، لهذا أفضل النموذج الكلاسيكي للرابطة بين الرجل والمرأة المحكوم بأمور أعلى من الحب وهو مفهوم تحول إلى الاستعمال المفاهيمي التافه والاستهلاكي بفعل الثورة الإعلامية والأدبية وكتابات الرومانسيين الهاربين من مسؤولياتهم الحقيقية.. وطبعا تحول الأمر إلى بوهيمية وإباحية وحب سائل بفعل حقيقة انعدام هذا الحب الرومانسي غير الموجود أصلا. مثلا أنا فضلت فيلم الجوكر لأنه يعني الكثير، يظهر فظاعة المجتمع الإنساني حيث صار أكثر توحشا بفعل الحريات غير المربوطة بالمسؤولية وانعدام مفهوم الاحترام لصالح السخرية والتنابز.. فصارت السخرية من الفقراء وكبار السن والمرضى والمعاقين أمورا مقبولة خاصة إذا كانوا من الطبقة المسيطرة سياسيا أو من الأغلبية القومية في البلاد، بينما صرنا في المجتمعات المعاصرة نخلق وضعيات غير حقيقية وأقليات وهمية دون أن ندرك أن المسألة في اللغات والمناكح والعقائد والولاءات متغيرة وغير ثابتة ولا يصح سوى للجماعة الأغلبية أن تحتفظ بوضع الهوية العميقة للأمة أو الدولة المعنية. لقد صار المجتمع الإنساني أكثر مرضا مما كان من قبل، بفعل رفض الإنسان لفكرة حمل الأمانة بالمفهوم القرآني، أو السيطرة على الأمور في كلام الناس العاديين، أو تحمل مسؤوليته القانونية والاقتصادية في القانون والاقتصاد.. وبالفعل صرنا نبرر الفشل والكسل ونعضده بالنقد الصارخ ضد من نجح ومن اغتنى، متناسين أننا كنا معهم في نفس القسم وفي نفس الحارة ومنهم من كنا نسخر منهم حسدا وغيرة حيث اعتقدنا أننا الأكثر جمالا وتفوقا وأصحاب ذكاء منقطع النظير.. إننا وحيدون في هذا العالم، نقذف إليه قذفا عراة وضعفاء وصارخين وجائعين.. تكون تجربة الحضانة والأمومة مرة واحدة، ثم يجب علينا بعدها أن نتألم ونتحمل ونقاوم.. لكن مهلا: ماذا حصل ؟! خرج مجنون في القرن التاسع عشر، معروف بعدم تحمل مسئوليته العائلية ويعيش على مساعدات صديقه الساذج، وقرر أن الناس في حاجة لعدم تحمل المسؤولية، فالتلميذ المجتهد مثلا مطالب بعدم الدراسة كثيرا لكي لا يجرح مشاعر التلميذ الكسول؛ والعداء السريع مطالب بعدم الجري كثيرا أيضا لكي يتقاسم مع الآخرين الجائزة وهكذا وصل الأمر لإمكانية التهرب مثلا من عدم أداء مصاريف كراء مقر التنظيم وتحميل الكومبرادورية مسؤولية ذلك.. أي هراء هذا حصل في تاريخ الفكر البشري؟! وطبعا هناك من برز يلوم الكفر والنمط الغربي في الإدارة والفكر والتسيير والاجتماع، غير مستشعر لحاله وغير مدرك لمفهوم التخلف.. عموما نحن في العالم العربي عالقون في انسداد تاريخي بسبب رفض فكرة المسؤولية وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة. لقد أبرزت الأحداث الجارية أن المستقبل للكداح، ولا مكان للطفيليين في عصر الاحتباس الحراري وتلاشي السياسة وتفكك الأسرة ومفهوم الالتزام العاطفي والاجتماعي وافلاس صناديق التقاعد بفعل الضغط الديمغرافي وسوء التسيير بشكل عام.. نعم إن المستقبل لمن يكدحون ويعملون، ولمن يغادرون أوطانهم ومناطقهم لأجل تحقيق أحلامهم، ولمن يستغلون الثغرات، لمن يسهرون الليل… لمن يعملون ! أما من يستمرون في تدخين المخدرات ولعن الظلام دون استغلال الولاعة في إشعال شمعة وتلمس الطريق، سيكون مصيرهم مؤلما، ما عاد ممكنا اليوم أن نوافق على فكرة أن يأكل المناضل المتقاعد من المال العام، هل تعلمون لماذا يرفض السياسيون التنازل على ريوعهم؟! سأخبركم بأمر مهم مادمت قد اختلطت بهم كثيرا، إنهم يعتقدون أنهم يستحقون مقابلا لأجل الهراء الفكري والسياسي الذي يقومون به، ويريدون أن يستفيدوا من الضرائب والرسوم التي يدفعها الملايين من البشر الكادحين في هذه البلاد، مقابل تأطيرنا!! إنهم يكذبون علينا دائما، ويرون أننا لا نعرف مصالحنا العامة.. وهذا جلي فهم يستطيعون إنشاء نظام مكافآت عينية ونقدية من المال العام وفي إطار التنظيم أو التسيير دون أن ندرك نحن ذلك.. لقد آن الأوان لندرك ضرورة إنهاء السياسة بهذه الطريقة التي تكلفنا اقتصاديا وباسم الديمقراطية! إن من يريد خدمة الصالح العام يجب أن يتخلى عن الامتيازات المقررة له بحكم الوضع الاعتباري بمجرد انتهاء الصفة المقررة له قانونا من هذا الوضع.. يا أيها السيدات والسادة عليكم أن تستيقظوا ! ليس هناك حلول سحرية غير المزيد من الألم والدم والدموع.. ليس هناك سوى الصبر على وضع عام يعاني فيه الملايين التعاسة والاكتئاب.. إن من يخبركم من السياسيين أن لديه حلولا اشتراكية أو إسلامية أو قومية أمازيغية أو قومية عربية أو أي إيديولوجية لعينة لا تصدقوه، ليس بالضرورة لأنه كاذب، بل لأنه متوهم ويجب أن تطبق في حقه مسطرة الإيداع في مشفى الأمراض العقلية في أقرب وقت ممكن.. لأنه سيجني بالسوء على البلد وعلى الملايين.. ملحوظة: أغلب الإيديولوجيين والسياسيين الديماغوجيين هم آباء فاشلون، لقد عاينت أسرهم عن قرب.. كيف تريدون من شخص لم يتحمل المسؤولية في منزله أن يتحمل مسؤولية شعب ؟! السؤال الذي يجب أن تطرحه على نفسك: متى أتحمل المسؤولية ؟!