اهتز الرأي العام المغربي والدولي معه للمأساة البشعة التي ذهب ضحيتها الشاب محسن فكري في مدينة الحسيمة يوم الجمعة من الأسبوع ما قبل الماضي، بعدما طحنته شاحنة للأزبال إثر محاولته منع السلطات فرم السمك الذي كان يتاجر فيه. ويأتي هذا الحادث الذي يحمل طابعا إجراميا، بشكل متعمد أو إهمالا، لكي يبرز مدى هشاشة الأمن القومي في البلاد ودرجة غياب تحمل المسؤولية من طرف المؤسسات الحاكمة. جاء اهتمام الرأي العام الوطني والدولي بهذه المأساة نظرا لبشاعتها، ونظرا كذلك لما ترتب عنها من احتجاجات عارمة في مجموع خريطة المغرب وأساسا في مدن شمال البلاد إلى مستوى الحديث عن البوعزيزي جديد قادر على تهديد ما يفترض «الاستقرار الأسطوري» في المغرب. والتساؤل الذي يطرح هنا: كيف لدولة مثل المغرب شهدت انتخابات تشريعية يوم 7 أكتوبر الماضي اعتبرت مؤشرا على الاستقرار وجدت استقرارها فجأة في آخر الشهر نفسه مهددا سياسيا واجتماعيا؟ وقد كشفت هذه المأساة عن معطيات واقعية بقدر ما هي مهمة بقدر ما هي خطيرة ولا تبشر بالخير. فقد خرج عشرات الآلاف من المغاربة في مختلف مدن المغرب للتنديد بالجريمة. وأطرت هذه التظاهرات جمعيات حقوقية وناشطون سياسيون لا ينتمون إلى «الحقل السياسي الكلاسيكي» الذي لا يمثل نواة الشعب المغربي، أي تلك الأحزاب التي تشارك في الانتخابات وممثلة في البرلمان، باستثناء اليسار الاشتراكي الموحد وأمينته العامة نبيلة مونيب التي كانت في مستوى الحدث. وعجزت الأحزاب السياسية مثل الدولة عن لعب أي دور في تهدئة الاحتجاجات التي تستمر رغم تعهد الملك محمد السادس بتحقيق «حقيقي» في هذه الجريمة، ومنها تظاهرات الأحد الماضي في مدن متعددة، أي عشرة أيام بعد الفاجعة. وهذا يبرز ما عالجناه في هذه الجريدة منذ شهر في مقال بعنوان «لماذا ينفر المغاربة من الانتخابات؟ مؤكدين على أن الانتخابات في المغرب لا يشارك فيها سوى 20% من المغاربة، بينما الأرقام الرسمية هي تلاعب قانوني للتمويه بوجود استقرار حقيقي وانتخابات مثالية. وهذا يجعل جزءا مهما من ال80% المقاطعين للانتخابات ينزلون الى الشارع كلما دعت الضرورة للضغط على الدولة لانتزاع الحقوق، لأن مؤسسات البلاد ومنها البرلمان لا يعتبرونه مجسدا لإرادتهم. في الوقت ذاته، رغم سيطرة الدولة على الإعلام وخلقها منابر إعلامية تخصصت في تشويه صورة الناشطين والتضييق عن الصحافة المستقلة سياسيا واقتصاديا عبر الإشهار، وقف إعلام الدولة والمقرب منها عاجزا على تفسير موقف الدولة المغربية. بحثت الناس على الخبر في منابر أخرى، وراهنت الناس على شبكات التواصل الاجتماعي، ومنها الفيسبوك. وكشفت هذه المأساة عن شرخ صامت وسط المغرب، فقد طغت في الاحتجاجات والتظاهرات على مقتل محسن فكري أعلام الحركة الأمازيغية وأعلام جمهورية الريف التي كان قد أعلنها زعيم الثورة الريفية محمد بن عبد الكريم الخطابي في بداية العشرينيات من القرن الماضي، وغاب العلم المغربي بشكل لافت. وهذا المعطى جدير بالاهتمام، فلا يتعلق الأمر بمشاعر الانفصال كما روجت لذلك بعض الجهات المقربة من الدولة المغربية، بل أن جزءا من المغاربة لم يعودوا يثقون في الدولة ورموزها بسبب مشاعر الظلم «الحكرة» في العامية المغربية التي تسود وسط المجتمع المغربي بعدما تأكد بالملموس مدى تهاون الحاكمين في معالجة قضايا ومستقبل البلاد مقابل تبني خطاب زائف حول الوضع السياسي والاقتصادي. ولما فشلت الدولة المغربية في مواجهة الاحتجاجات، خاصة بعدما لم تعد غالبية الشعب تثق في التزامات الدولة من أكبر مسؤوليها إلى أصغرهم، كما بينت التجارب، تفادت اللجوء إلى القوة لأن هذا الرهان سيفجر البلاد، ولجأت الى الحديث عن ضرورة وقف الاحتجاجات تفاديا للفتنة، ومشيرة الى ضرورة الاستفادة مما يقع في سوريا وليبيا واليمن بعد الربيع العربي من فوضى. لكن الجزء الكبير من الرأي العام يستغرب من خطاب الفتنة الذي تروجه الدولة المغربية لأن ممارسات المخزن المغربي هي تاريخيا مصدر الفتنة في البلاد، خاصة في الظرف الحالي الذي بدأت فيه الأسس الحقيقية للاستقرار في البلاد تنهار في صمت وبشكل تدريجي. ولهذا نجد أن الفتنة هي: السياسة الخاطئة التي جعلت التعليم ينهار في البلاد، ويعيش المغرب خلال الثلاث سنوات الأخيرة أسوأ مواسم الدخول المدرسي منذ الاستقلال حتى الوقت الراهن، علما بأن التعليم هو أساس كل نهضة حقيقية وليس تبني مشاريع مثل القطار السريع. السياسة الاقتصادية الخاطئة التي رفعت من المديونية إلى مستويات لم تشهدها البلاد حتى في عز الأزمة في الثمانينيات وترهن مستقبل الأجيال المقبلة وعمقت من الفوارق الطبقية بسبب انفراد الحاكمين وقلة قليلة بخيرات البلاد، ومازال الشعب ينتظر من الملك تطبيق ما تعهد به في خطابه منذ سنتين وهو «أين الثروة؟». السياسة الدبلوماسية غير المناسبة التي تجعل جبهة البوليساريو تتقدم في المنتديات الدولية، وتجعل من المغرب يعيش مفارقة حقيقية بعدما أصبحت هذه الحركة التي تتوفر على صفة الدولة العضو في الاتحاد الأفريقي من الذين قد يقررون في عودة المغرب إلى الاتحاد من عدمه، علاوة على صمت المغرب على ملف سبتة ومليلية. لقد أصبح المغرب يعيش مفارقة حقيقية، أصبح الشعب هو الواعي والناضج الذي يحاول الدفاع عن الاستقرار وسط مغامرات سياسية من طرف بعض مكونات الدولة، وهذه المكونات غير واعية بأن ارتفاع مؤشر اليأس لدى الناس، بسبب سياسات وحسابات خاطئة، الى مستويات لا يمكن السيطرة عليها هو بوابة الفتنة. استقرار المغرب يقوم على وعي الشعب بحدود لا يتجاوزها في مطالبه ومنها، الإصلاح في ظل النظام الملكي، وعلى وعي السلطة بعدم الاستهتار الكامل بحقوق المواطنين. لكن هذا التوازن بدأ نسبيا يتلاشى بسبب ممارسات السلطة التي لم تدرك أن المغاربة مواطنين وليسوا رعايا. أسباب الفتن واندلاع الثورات معروفة وهي الظلم «الحكرة» ونهب أموال الشعب والاعتداء على أعراض المواطنين، توابل تنتعش في المغرب. نتمنى من الحاكمين رؤية الواقع حتى لا يتسببوا في الفتن، وكيف أن أحد مكونات السلطة في البلاد وهو الملك اعترف بنفسه وقال إن المغرب يقترب من العالم الخامس، يعني بداية الانهيار.