نتمتع نحن البشر، على خلاف ما يعتقد البعض، بعدد غير محدود من الخلايا الدماغية. معظمها ينمو في مراحل مبكرة من حياتنا، إلا أن بعض الأماكن في الدماغ تستمر في بناء هذه الخلايا خلال مرحلة البلوغ وما بعدها وتسمى عملية تكوين الخلايا العصبية ب neurogenesis وتعد منطقة "الحصين" من بينها وهي منطقة مهمة في الدماغ وتلعب دورا هاما في التذكر والمشاعر والتعلم. هناك عدد من العوامل التي تؤثر على عملية تكوين الخلايا العصبية مما يتسبب في قتلها وتدميرها، نذكر هنا أهم خمسة أشياء مسؤولة عن إتلاف الدماغ:
الجفاف: يشكل الماء 60% من الوزن الإجمالي للجسم البشري، وتصل هذه النسبة إلى 75% بالنسبة للدماغ. وهو ما يفسر ضعف التركيز وتشوش الرؤية والهلوسة في حال استمرار حرمان الجسم من الماء.
إن أكبر خطأ نرتكبه في حق أجسامنا هو حرمانها من المياه وبالتالي التأثير السلبي على تمثل الغذاء في الجسم وامتصاص المواد العضوية الأساسية لعمل الدماغ وسائر الأعضاء.
ربما تظن أن نقص المياه في جسمك لا يؤثر عليه إلا بعد مدة طويلة، لكن في الواقع فإن الأضرار تبدأ بالحدوث بعد 4 ساعات متتالية من العطش، وكإجراء دفاعي للجسم عند نقص المياه يتم ضخ المياه نحو الدماغ بشكل كبير مما يؤدي لتمزق بعض خلاياه.
إن الرغبة الملحة والمتكررة في دخول الحمام التي يشعر بها شاربي الكحول تأتي بسبب كبح هذا المشروب لهرمون "فاسوبريسين" المسؤول عن حفظ المياه في الجسم، وهذا ما يجعله غير قادر على حبس إدرار البول ويؤدي كل ذلك إلى جفاف الجسم وبالتالي تزايد الرغبة في الشرب.
قلة النوم: تنصح المنظمة العالمية للنوم الأشخاص البالغين بالحصول على معدل نوم بين 7 و9 ساعات خلال الليل. وتدلل على ذلك بأنه الوقت اللازم للدماغ ليمر بكل مراحل النوم الضرورية من النوم الخفيف الذي يبدأ بالتثاؤب إلى العميق وانتهاء بحركة العين السريعة والتي يصطلح عليها علميا ب REM ويشكل الثلث الأخير من دورة النوم، وهي المرحلة التي نستطيع أن نستيقظ فيها. تتكرر هذه المراحل عدة مرات خلال النوم.
إن الوصول إلى مرحلة النوم العميق أو ال REM أمر مهم جدا، فهي المرحلة التي ينشط فيها المخ بشكل كبير لجعلنا نستمر في النوم والاستغراق في الأحلام وخلالها أيضا تنشط المناطق المسؤولة عن التعلم. حيث يتم تجميع وتخزين جميع الذكريات وتجديد مستويات الطاقة.
أظن أننا لن نتفاجأ بعد هذا من معاناة الفرد فينا، عندما لا ينال القسط الكافي من النوم، من صعوبة التركيز واتخاذ القرارات الصحيحة أو ضعف الإنتاجية.
تشير دراسات أجريت العام الماضي إلى مدى تأثير اضطرابات النوم على صحة الدماغ، تقول الدكتورة Sigrid Veasey طبيبة وأستاذة مشاركة في مركز النوم وبيولوجيا الأعصاب الإيقاعية في جامعة بنسيلفانيا بالولايات المتحدةالأمريكية أن فترات طويلة من الأرق قد تسبب ضررا بالغا وقد تقتل خلايا منطقة تسمى البقعة الزرقاء أو LC (locus coeruleus) وهي خلايا من الدماغ تهم اليقظة والتفكير الأمثل. بدون هذه الخلايا التي تساعد في إنتاج الطاقة لن يكون جسمنا قادرا على العمل بشكل صحيح في اليوم الموالي. في حين وجدت دراسة أخرى أن الحرمان من النوم يسبب انكماش القشرة المخية والحصين خصوصا مع التقدم في السن حيث نحتاج لفترات نوم أطول.
التوتر: نعم إنه مدمر للجسد ككل وليس للدماغ فقط، لكن تأثيره على الدماغ كبير ومباشر. جميعنا مررنا بلحظات أو أيام أحسسنا فيها أن كل شيء يسير بشكل خاطئ وأن النتائج تأتينا عكسية وكأن "نحسا" أصابنا.
إن الوسيلة الطبيعية لجسمنا لمواجهة التحديات التي نمر بها يوميا هو أن يدفعنا نحو التركيز أكثر فأكثر، في محاولة لمعالجة ذلك الكم الهائل من المعلومات والصور والأصوات والأحداث، وحين يعجز جسمنا عن فعل كل ذلك في وقت وجيز تأتي النتائج عكسية كالتشتت وضعف التركيز وقتل لطاقة الجسم.
يمكن إرجاع سبب كل ذلك لهرمون التوتر "الكورتيزول" التي تفرزها الغدة الكظرية في لحظات الضغط النفسي والتوتر، وهو يعمل على تنشيط العديد من العمليات البيولوجية بهدف تحويل الطاقة حيث يحتاج الجسم، فيما يثبط العمليات الأخرى التي يعتبرها ثانوية في لحظات التوتر القصوى فتتوقف عملية الهضم مثلا عند تسارع دقات القلب كما تتعطل الذاكرة والقدرة على الاستيعاب وتزداد الانفعالات اللحظية.
في دراسة علمية نشرت حديثا، وجد فريق بحث من جامعة كاليفورنيا أن الأشخاص الذين يعانون من التوتر المزمن حيث يصل مستوى الكورتيزول عندهم لمستويات عالية جدا، يعمل دماغهم على إنتاج المزيد من الخلايا المفرزة لمادة "المايلين" أو "النخاعين" وهي مادة عازلة كهربائيا لمحور الخلية العصبية وهي مادة مهمة جدا لحسن سير السيالة العصبية، في المقابل فإن إنتاج الخلايا العصبية نفسها يتضاءل وهذا ما يسبب خللا في وظائف الدماغ، مما قد يؤدي لخطر إصابة الشخص باضطرابات عقلية كالفصام واضطرابات القلق.
التدخين: أكثر من 18% مدخنين في المغرب، حسب دراسة أنجزها أطباء مغاربة بالتعاون مع وزارة الصحة، هؤلاء ومع كل نفس يأخذونه من السيجارة يستنشقون أكثر من 7000 مادة كيميائية سامة، 69 منها بينت الأبحاث أنها مسببة للسرطان.
كما يتسبب التدخين أيضا في مجموعة أخرى من الأمراض بدءا بالتهاب الشعب الهوائية المزمن وانتفاخ الرئة ولذلك نجد معظم المدخنين يعانون من الكحة والأمراض التنفسية طول الوقت، وليس انتهاء بأمراض القلب والسكتة الدماغية.
تجدر الإشارة إلى أن السكتة الدماغية والتي هي عبارة عن توقف تام أو صعوبة شديدة في وصول الدم لأحد أجزاء الدماغ ما يحرمها الأوكسجين والمواد الحيوية فتبدأ بالتلف والموت فورا ولذلك فإن مرض السكتة الدماغية يعتبر حالة طوارئ لإيقاف تلف الدماغ، ويؤدي التدخين المستمر إلى زيادة نسبة ومرات حدوث السكتة وبالتالي تفاقم الضرر البالغ.
نشر المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية سنة 2002 دراسة لمجموعة من العلماء وجدوا بأن الفئران المدمنة للنيكوتين ولدت فئرانا بخلايا حصين (منطقة في الدماغ) أقل بنسبة 50% وأولئك الذين تناولوا جرعات أكبر من النيكوتين تموت خلايا الدماغ لديهم أيضا بنسب أكبر. بل الأسوأ من ذلك حسب دراسة أجريت في الهند فإن مركبا للسيجارة يدعى (إن إن ك) يسبب تهيجا في المخ ويدفع خلايا الدم البيضاء المسؤولة عن دفاعات الجسم إلى مهاجمة الخلايا السليمة للمخ.
ومن المؤسف أن كل تلك الأضرار تستمر آثارها حتى بعد إيقاف التدخين، وكلما طالت المدة التي يدخن فيها الإنسان طالت أيضا مدة التخلص من تبعاتها. لتفاصيل أكثر يمكنك مراجعة هذا المقال:
الكوكايين والمخدرات: عدد من المخدرات مثل الماريجوانا، الهيروين تحتوي على مادة كيميائية مشابهة لتك الموجودة في النواقل العصبية بشكل طبيعي وهي تلتصق بالمستقبلات هذه الأخيرة وتدمرها مما يتسبب في تلف في الدماغ واضطراب القدرة على الإدراك.
أما الكوكايين وال"ميثامفيتامين" فهما يحفزان النواقل العصبية لتحرير كميات أكبر من الدوبامين، السيروتونين، والنورادرينالين التي تعطي إحساسا باليقظة والتركيز والنشاط الؤقت.
هذا التحسن المؤقت يتبعه تدهور في عمل الخلايا العصبية التي المسؤولة عن إنتاج تلك المواد الكيميائية المئؤولة عن الشعور بالسعادة مما يجعل الجسم في حالة طلب دائم لجرعات أكبر وأكبر والغوص في بئر الإدمان أكثر فأكثر.
في دراسة أجريت عام 2003 قارن عدد من الباحثين دماغ 35 شخصا مدمنين للكوكايين مع 35 آخرين غير مدمنين، فوجدوا أن مستويات الدوبامين منخفضة جدا عند المتعاطين وخصوصا أولئك المصابين بالاكتئاب منهم، فخلصوا إلى أن عدد الخلايا المنتجة للدوبامين عند المتعاطين للكوكايين قد تراجع بفعل الإدمان.