بقلم: سعيد موقوش* سعيا منه وراء تحديث المنظومة التشريعية المغربية، وذلك في إطار ورش إصلاح القضاء، الذي جاءت خطوطه العريضة في الخطاب الملكي ل 20 غشت 2009، أصدر المشرع المغربي في الخامس من سبتمبر 2011 حزمة من القوانين المغيرة والمتممة لكل من التنظيم القضائي ل 15 يوليوز 1974، وقانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية، كما تم إحداث أقسام لقضاء القرب بموجب القانون رقم 42.10، إلى جانب توسيع مجال اختصاص القضاء الفردي وإحداث أقسام للجرائم المالية بمحاكم الاستئناف... وغيرها من النقط التي حملتها التعديلات الجديدة المنشورة في الجريدة الرسمية عدد 5975. وسنقتصر في هذا الإطار على جرد أهم التعديلات التي طالت ظهير 15 يوليوز 1974، والتي جاء بها القانون رقم 34.10، الذي غير وتمم أحكام الفصول: 1، 2، 4، 5، 6،7، 24 من ظهير التنظيم القضائي. وبادئ ذي بدء، تجدر الإشارة إلى أن القانون رقم 34.10 المعدل لظهير 15 يوليوز 1974، لم يكن وفيا لدستور 1 يوليوز 2011 بخصوص بعض المفاهيم الجديدة التي تبناها هذا الأخير، بحيث نجد الفصل الأول والفصل 24 من قانون 34.10 قد استعملا عبارة "المجلس الأعلى"، في حين الدستور الجديد يشير إلى هذه المحكمة بعبارة "محكمة النقض" وذلك من خلال الفصل 115، في معرض حديثه عن تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية. هذا الارتباك على المستوى المفاهيمي حاولت الحكومة تداركه فيما بعد، بحيث تقدمت بمشروع قانون رقم 58.11، حيث جاء فيه أنه: "تحل عبارة "محكمة النقض" محل عبارة "المجلس الأعلى" في جميع مقتضيات الظهير الشريف رقم 1.57.223 الصادر في 2 ربيع الأول 1377 (27 سبتمبر 1957) بشأن المجلس الأعلى، كما تم تغييره وتتميمه، وكذا في جميع النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل ". ولم تسلم التعديلات التي حملها القانون رقم 34.10 من الانتقادات الموجهة بالأساس من نادي قضاة المغرب، الذي عاب على الوزارة الوصية عدم إشراك القضاة في مناقشة التغييرات قبل عرضها على أنظار البرلمان. ولمقاربة موضوع التعديلات الجديدة التي حملها القانون رقم 34.10 المغير والمتمم لظهير التنظيم القضائي - وذلك بنوع من التفصيل – سوف ترتكز منهجية التحليل في هذا الموضوع وفق العناصر التالية: أولا: أقسام قضاء القرب.. إبداع أم ابتداع ؟ أ- من تجربة محاكم الجماعات والمقاطعات إلى أقسام قضاء القرب: عمد المشرع المغربي إلى حذف محاكم الجماعات والمقاطعات بعد تجربة 37 سنة أبانت عن قصورها، وذلك بموجب القانون رقم 07.11 الصادر بتاريخ 18 فبراير 2011 (منشور في الجريدة الرسمية عدد 5923 في 7 مارس 2011)، وهذا ما أكده الفصل الأول من قانون 34.10 المغير والمتمم لظهير 15 يوليو 1974، وذلك حين استغنى عن هذا النوع من المحاكم. وهكذا ونظرا لكثرة الانتقادات الموجهة إلى عمل هذه المحاكم تدخل المشرع بإحداث أقسام قضاء القرب على مستوى جميع محاكم الدرجة الأولى، وذلك بموجب الفصل الثاني من قانون 34.10 الذي ينص على أنه "يمكن تقسيم هذه المحاكم - أي المحاكم الابتدائية- بحسب نوعية القضايا التي تختص بالنظر فيها إلى أقسام قضاء الأسرة وأقسام قضاء القرب وغرف مدنية و تجارية وعقارية واجتماعية وزجرية ". إلا أن البعض يرى من إحداث أقسام قضاء القرب تقليد لبعض القوانين "البائدة"، مثل "قضاء المحاكم الجزئية" بليبيا و"قضاء الجوار" بالعراق (جاء ذلك في مقال سعيد بورمان رئيس المجلس الجهوي للمفوضين القضائيين بدائرة محكمة الاستئناف بالدارالبيضاء، منشور بجريدة الصباح عدد3546 بتاريخ 6/9/2011). ب - الاختصاص النوعي لأقسام قضاء القرب: طبقا للفقرة الثانية من الفصل الثاني من قانون 34.10 المغير والمتمم لظهير 15 يوليوز 1974، فإنه ينعقد الاختصاص النوعي لأقسام قضاء القرب في الدعاوي الشخصية والمنقولة التي لا تتجاوز قيمتها خمسة آلاف درهم باستثناء النزاعات المتعلقة بمدونة الأسرة والعقار والقضايا الاجتماعية والإفراغات، كما تنظر كذلك في المخالفات المنصوص عليها في القانون المتعلق بتنظيم قضاء القرب رقم 42.10. ويرى بعض الباحثين أن هذه الأقسام المستحدثة لا تشكل سوى صورة طبق الأصل لمحاكم الجماعات والمقاطعات الملغاة، مع فارق رفع الاختصاص القيمي من ألف درهم بالنسبة للمحاكم السابقة إلى خمسة آلاف درهم بالنسبة لأقسام قضاء القرب. بيد أنه يمكن القول أن المشرع لم يمنح لأقسام قضاء القرب بعض الاختصاصات التي تشكل خطورة على المراكز القانونية للمتقاضين، والتي كانت موكولة سابقا لمحاكم الجماعات والمقاطعات، كالنظر في طلبات الوفاء بالكراء وفسخه لعدم أداء الوجيبة الكرائية، وكذا التدابير التي تضع حدا للاحتلال الحال والمانع من الانتفاع بحق الملكية (الفصلين 22 و 23 من ظهير 15 يوليوز المتعلق بتنظيم محاكم الجماعات والمقاطعات). وحيادا عن مقتضيات الفصل 16 من قانون المسطرة المدنية، المتعلق بالدفع بعدم الاختصاص النوعي، فإن المشرع قد جعل الاختصاص النوعي لأقسام قضاء القرب - شأنها شأن أقسام قضاء الأسرة – يعد من النظام العام، تثيره المحكمة من تلقاء نفسها في أي مرحلة من مراحل التقاضي. وبناء عليه، فإنه لا يجوز للأطراف عرض نزاعهم على غرفة أخرى إذا كان القانون يسند الاختصاص في موضوع النزاع إلى أقسام قضاء القرب. ثانيا - التعديلات التي طالت الهيكل التنظيمي لمحاكم الدرجة الأولى والدرجة الثانية: ارتكز القانون رقم 34.10 على تقسيم ذو بعد ثلاثي داخل المحاكم الابتدائية، بحيث تم تصنيفها حسب نوعية القضايا التي تختص بالنظر فيها إلى محاكم ابتدائية مدنية ومحاكم ابتدائية اجتماعية ومحاكم ابتدائية زجرية، وكل محكمة تتضمن أقسام وغرف وذلك وفق الشكل التالي:
غير أن هذا التقسيم غير إلزامي، إذ المشرع استعمل لفظ "يمكن تصنيف المحاكم الابتدائية.." وهو ما يفيد التخيير، بحيث أوكل المشرع الأمر إلى السلطة التقديرية للجمعية العمومية للمحكمة الابتدائية. وتجدر الإشارة إلى أن المشرع قد أحدث غرف الإستئنافات بالمحاكم الابتدائية، وذلك بمقتضى الفقرة الأخيرة من الفصل الثاني من القانون رقم 34.10. وتختص هذه الغرف بالنظر في بعض الإستئنافات المرفوعة ضد الأحكام الصادرة ابتدائيا عن إحدى الغرف المبينة في الخطاطة أعلاه. أما بخصوص المستجد التشريعي الذي أتى به المشرع على مستوى محاكم الدرجة الثانية، فيتعلق بإحداث أقسام للجرائم المالية بمحاكم الإستئنافات تختص بالنظر في الجنايات المنصوص عليها في الفصول من 241 إلى 256 من القانون الجنائي والمتعلقة بالرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ والغدر...، ولقد حدد المشرع محاكم الاستئناف التي ستحدث فيها هذه الأقسام، وهي: محكمة الاستئناف بالرباط ، الدارالبيضاء، مراكش، فاس.
ثالثا: العودة إلى نظام القضاء الفردي: اتسم موقف المشرع المغربي من نظام القضاء الفردي والقضاء الجماعي بالتردد، فمن خلال ظهير 15 يوليوز 1974 نجده قد أخذ بنظام القضاء الفردي، لكن كثرة الانتقادات الموجهة إلى هذا الأخير جعلت المشرع يعدل عنه ويأخذ بنظام القضاء الجماعي مع إيراد بعض الاستثناءات، وذلك من خلال ظهير 10 سبتمبر 1993، غير أن التدخل التشريعي ل 11 نونبر 2003 عاد إلى جعل التنظيم القضائي المغربي ينبني على مبدأ القضاء الفردي في جميع القضايا باستثناء دعاوي الأحوال الشخصية والميراث، والدعاوي العقارية العينية والمختلطة، والقضايا الجنحية التي يعاقب عليها القانون الجنائي بأكثر من سنتين. وقد جاءت هذه المقتضيات في محاولة من المشرع التوفيق بين نظام القضاء الجماعي والقضاء الفردي أمام المحاكم الابتدائية. غير أن هذا التوجه الذي تبناه المشرع، سيعدل عنه مرة أخرى، وذلك عبر توسيع مجال اختصاص القضاء الفردي، والعودة إلى ما كان عليه الحال في ظهير 15 يوليوز 1974. وبناء عليه، فقد جاء في الفصل الرابع من قانون 34.10 المغير والمتمم لظهير 15 يوليوز 1974 على أنه: " تعقد المحاكم الابتدائية، بما فيها المصنفة جلساتها... بقاض منفرد، وبمساعدة كاتب الضبط، ما عدا الدعاوي العقارية العينية والمختلطة وقضايا الأسرة والميراث باستثناء النفقة التي يبث فيها بحضور ثلاثة قضاة بمن فيهم الرئيس وبمساعدة كاتب الضبط ". والملاحظ أنه إلى جانب الاستثناءات التي أوردها المشرع أعلاه، والتي يبث فيها بحضور ثلاثة قضاة، أضاف إليها المشرع القضايا التي تختص فيها غرف الإستئنافات المحدثة بالمحاكم الابتدائية، بحيث يبث فيها وهي مركبة من ثلاثة قضاة، بمن فيهم الرئيس وبمساعدة كاتب الضبط ( الفصل 5 من قانون 34.10 ). وتتمثل دواعي هذا التعديل الذي وسع من مجال القضاء الفردي - حسب ما جاء في اللقاء التواصلي الذي عقده السيد وزير العدل مع ممثلي وسائل الإعلام، والذي خصص لتقديم حصيلة منجزات إصلاح منظومة العدالة- فيما يلي: 1- سرعة البث في القضايا. 2- تحميل كل قاض مسؤوليته أمام المفتشية العامة لوزارة العدل. فبخصوص المبرر الأول الذي أرتكز عليه السيد وزير العدل، فإنه يمكن القول أن ذلك من شأنه أن يمس بجودة الأحكام ومردو ديتها، أي التركيز على الكم على حساب الكيف. أما المبرر الثاني المتمثل في تحمل القاضي مسؤولية الحكم الذي أصدره، فهو مبرر يصدق فقط حالة الأحكام الصادرة عن هيئة جماعية دون تضمين وجهات نظر القضاة المخالفين ومبرراتهم داخل حيثيات الحكم، وعليه فإنه كان على المشرع أن يبقي على نظام القضاء الجماعي، لما يتصف به من مزايا يطول ذكرها، مع العمل على اشتراط إبراز وجهات نظر القضاة المخالفة لمنطوق الحكم. *باحث بسلك الماستر بكلية الحقوق مكناس