قال المندوب السامي للتخطيط أحمد الحليمي، في معرض تقديمه للميزانية الاقتصادية لسنة 2017، أن المبادلات الخارجية من السلع والخدمات ستسجل "عجزا بنيويا يبلغ 100 مليار درهم في 2016 عوض 60 مليارفي 2007،أي 10% و9,3% على التوالي من الناتج الداخلي الإجمالي. وقد يبلغ العجز التجاري للسلع دون احتساب الخدمات حوالي 180 مليار درهم في 2016." ولتفسير هذا المعطى الأساسي الضاغط الذي يجر عجلة النمو إلى الوراء بمفعوله السلبي ويمثل تحديا دائما لميزان الأداءات ويعمق مشكلة تمويل الاقتصاد ويدفع إلى الاقتراض وتضخم الدين الخارجي، قال الحليمي في إطار تقديم مجموعة من الخلاصات المستخلصة من التحليل الماكرو-اقتصادي للمندوبية السامية للتخطيط، أن ضعف تنافسية نسيجنا الإنتاجي يفسر"خصوصا بالمحتوى القوي والمتزايد من الواردات لطلبنا الداخلي، وكذا لجزء العرض الوطني الموجه نحو التصدير." وأن النموذج الاستهلاكي كما تطور في المغرب يدفع إلى تلبية حاجيات فئات من الساكنة، فيما يتعلق بالجزء غير الغذائي، عبر واردات أكثر من العرض الوطني لدى توفره. وهذا ما أدى إلى أن أصبحت الواردات الموجهة لاستهلاك الأسر من السلع والخدمات 20 في المائة من مجموع الواردات.
لكنه يستطرد بأن استهلاك الأسر ليس وحده من يشكل دعامة لارتفاع الواردات وكلفتها التي تبتلع مختلف التحويلات الخارجية وتدفع إلى الاستدانة الخارجية، بل هناك أيضا الاستثمار، حيث أشار إلى أنه رغم تباطئه مند 2010، التي بلغ خلالها معدل 34 في المائة من الناتج الداخلي ووصل إلى أعلى معدل عالمي، فإنه يعتبر مصدرا لزيادة الواردات، حيث انتقلت حصة واردات التجهيز المرتبطة بعدد من الاستثمارات من 19 في المائة من مجموع الواردات سنة 2011 إلى 29 في المائة سنة 2016، وانتقلت حصتها من تكوين رأس المال الثابت من 26 في المائة سنة 2012 إلى 40 في المائة. وتطلب الجزء الصناعي من صادرات المغرب، التي تأتي في صدارتها صناعة السيارات والصناعات الإلكترونية والطائرات كما هو معروف، استيراد مدخلات وسيطة بقيمة 25 مليار درهم في سنة 2015 مقابل 7،12 مليار درهم سنة 2011. وإذا كانت العادة قد جرت باعتبار تطور الواردات من التجهيز والإنتاج الصناعي إيجابية في حد ذاتها وعلامة على حيوية استثمارية مفتوحة على أفق تطوير التصنيع والإنتاج والعرض، فإن الحليمي ينبه ضمنا إلى إشكالات يتم تجاهلها لدى إصدار مثل هذا الحكم السريع والنمطي، إذ أن الواردات المرتبطة بالاستثمار لا تؤدي كلها إلى توليد المفعول التصنيعي المطلوب، وذلك نظرا لكون مستوى الاندماج على مستوى الصناعة المغربية ضعيف، في غياب مسالك متكاملة بالنسبة لكل الصناعات، من جهة وأن القطاع الصناعي يشتغل في جزء كبير منه في إطار المناولة أو الأعمال الباطنية التي تستفيد من الأنظمة الجمركية، وبالأخص الدخول المؤقت، التي تفلت من أداء الرسوم على العموم إلا فيما يتعلق بجزء إنتاجها الذي يتم ترويجه في السوق الداخلية.
ورغم أن وزير الصناعة والتجارة الحالي دعا في وقت سابق إلى إعمال المقاصة الصناعية (compensation industrielle)، التي تقضي بنقل تصنيع عدد من الواردات من طرف الشركات الأجنبية إلى المغرب، بارتباط بتصور تطوير "أنظمة صناعية مندمجة" (ecosystems)، في إطار استراتيجية التسريع الصناعي الهادفة إلى نقل حصة الصناعة في الناتج الداخلي الخام من 13 في المائة حاليا إلى 23 في المائة في أفق 2023، فإن تلك الدعوة لم تحقق المرجو منها إلا في حدود (السيارات على الخصوص)، وسيكون مطلوبا بدل مجهود كبير على هذا الصعيد في السنوات الأخيرة دون حصر الأمر في العلاقة مع السوق الداخلية التي تبقى ضيقة بالمقاييس المشجعة ( 100 مليون مستهلك)، وجعل الأفق الإفريقي حاضرا.
وقد خلص المندوب السامي للتخطيط إلى أن معدل اختراق الواردات للسوق الوطنية وصل إلى 34 في المائة، مشكلا بذلك أحد أعلى المستويات في الدول الصاعدة، وهو معدل تنجم عنه جملة من الإشكالات.
هذه الإشكالات قاربها الحليمي بحذر شخصي كي لا يحسب عليه أنه من أوصى بالضغط على استهلاك الأسر، وهو مشروع اشتغلت عليه الحكومة المنتهية ولايتها بتجميد الأجور وتقليص فرص الشغل وزيادة الاقتطاعات ورفع معدل الضريبة على القيمة المضافة على عدد من السلع والخدمات...في إطار تنفيذ البرنامج الملتزم به تجاه صندوق النقد الدولي (اتفاقية خط الوقاية والسيولة)، لكنه سقط في تناقض منطقي حاد، حيث استبعد اللجوء إلى تقليص الاستهلاك النهائي للأسر نظرا للخطر الذي يمكن أن يترتب على ذلك على الاستقرار مستشهدا بالبحوث حول ما تستشعره الساكنة التي تخلص حسب قوله "أن الشعور بالهشاشة، بل بالفقر، يتزايد مع تحسن ظروف المعيشة." و"أنه بالرغم من انخفاض وتيرة نمو الدخل الإجمالي المتاح للأسر بالحجم بين الفترتين 2007-2010 و2011-2015،فإن الاستهلاك النهائي للأسر بالحجم حافظ على معدل نمو بلغ 5% خلال الفترة الأولى و %3,7 خلال الفترة الثانية. وهذا ما يوضح من جديد تشبث الساكنة بالحفاظ على مستوى استهلاكها ولجوئها إلى الاقتراض." لكنه يخلص هو إلى أنه "مهما كان المجهود الذي ينبغي أن تبذله بلادنا بطريقة مشروعة للحد من الاستهلاك من أجل تعزيز الادخار، فإن هذا المجهود ينبغي بلورته في سياق إرادة جماعية منبثقة عن حوار اجتماعي ممأسس"، ما يعني بلغة واضحة أنه مع شرط نيل القبول بلغة أقل تكلفا والتواء، والقبول كما يعرف سيهم فئات بعينها تنزل عليها كل المطارق، باسم الإصلاح، في المدة الأخيرة، كي لا تغتسل ولا تضئ أكثر ولا تستعمل سخانات في هذا البرد القارس ولا تسافر ولا تنوع سلة استهلاكها ولا تطمح في ترقي اجتماعي ولا في تمكين أبنائها من تعليم وتكوين عاليين ولا في حتى تقاعد يقي من الفقر في نهاية العمر...فالجميع يعرف ما مرره بنكيران بخطاب شعبوي مدعوم من "المداويخّ وما يستعد لاستكماله لجعل المغرب بلد "الصدقات" بدل الدخل والعيش الكريمين.
ومثلما كان التناقض واضحا بين مقدمات الحليمي وخلاصاته بشأن استهلاك الأسر، فقد كان واضحا أيضا بشأن الاستثمار، حيث قال: "لا يمكن تقليص مجهود الاستثمار، كما كان الحال في سنتي 2013 و2014،دون الإضرار بالنمو المستقبلي الكامن لبلادنا."، علما بأن السنتين عرفتا تراجعا للميزانية العمومية الموجهة للاستثمار وانخفاضا لاستثمار القطاع العمومي، وأردف أن دراسة لمندوبيتة السامية حول مردودية الرأسمال المادي كشفت "عن ضعف مستوى الكثافة الرأسمالية بالمغرب مقارنة بعدة بلدان صاعدة." لكنه خلص بعد ذلك إلى ملاحظة "ضعف مردودية الاستثمار"، وهي حقيقة يبنها بشكل واضح عدم التناسب بين معدل استثمار وطني بلغ بين 34 و33 في المائة من الناتج الداخلي الخام سنويا وبين معدلات نمو ضعيفة تعكس حدود خلق الثروة وارتفاع البطالة، ووصل إلى الأهم في هذا السياق حين قال إن "البحث الذي يمكن أن تقوم به بلادنا عن عوامل تحسين تنافسية النسيج الإنتاجي الوطني والنمو الاقتصادي، ينبغي أن يتم بالدرجة الأولى في إطار تدبير أفضل لبرامجها وف يتوظيفها قطاعيا وتكنولوجيا بشكل أمثل." ما يعني بلغة مباشرة قبولا بتخفيض معدل الاستثمار، وبالأخص بتخفيض استثمار الدولة والمؤسسات التابعة لها، والتركيز على تثمين ما أنجز عبر إيلاء العناية أكثر للحكامة.
وإذا كان تغيير نمط الحكامة حاسما في الرفع من مردودية الاستثمار ووقف الهدر والتركيز على مشاريع منتجة للثروة ومطورة للخدمة ومحدثة لمناصب الشغل بالكثافة المطلوبة لامتصاص البطالة الحضرية المرتفعة جدا، وبالأخص وسط حاملي الشهادات، فمما لاشك فيه أن حكامة جيدة لا تناقض الحفاظ على مستوى استثمار مرتفع، ولا يبرر مستوى المديونية الخارجية أو الداخلية مراجعات غير سليمة، وإن كان مطلوبا دائما عدم المغامرة بإغراق البلاد في الدين الخارجي.