إبراهيم رمزي عُرف الصيام في الأديان السابقة على الإسلام، على اختلاف في صفته، وعدد أيامه. وفي بداية الإسلام، كان الصيام مستحبا: ثلاثة أيام من كل شهر، مع عاشوراء. وكان الفداء ممكنا للذين يطيقون الصيام ولا يصومون. إلى أن جمعت الأيام في شهر رمضان الملزم للجميع، باستثناء عدد من الرخص، على أساس القضاء، إلا في حالة العجز، فإن الكفارة تجزيء. بخلاف ممارسة الصلاة والزكاة والحج والشهادتين التي تلاحظ عيانا، يبقى الصيام – إجمالا – غير خاضع لسمات مميزة تدل على صيام الفرد أو تظاهره بذلك. وقطعا لهذا التحايل أقر الحديث القدسي: " كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به ". وأفاض الاجتهاد في إبراز فضائل رمضان وليلة القدر التي هي " خير من ألف شهر"، كما أفاض في التحذير والترهيب من انتهاك حرمة الشهر. وتصوير العقاب الدنيوي والأخروي. والانتهاك عرفته كل العصور، ويمكن أن يكون - عند استقبال الشهر، أو خلاله، أو بعد توديعه – بالممارسة، أو بمجون القول. ونجد في الشذرات المتناثرة – هنا وهناك – من كتب التراث اشتراك الخاصة والعامة في ذلك. فهناك الخليفة، والأمير، والشاعر، والأعرابي، والمرأة، ... وإن كانت فئة الشعراء هي الأكثر تصريحا بالغواية في رمضان، من خلال السلوك الشخصي أو الحكي عن الغير. في العهود الأولى للإسلام 1 والانتهاك سيبدأ من عهد النبوة. ويسطّر ذلك الأحاديث التالية، والتي لا نستبين منها: هل الحالات متعددة؟ أم هي واحدة، تعددت بشأنها الروايات: أ - عن عائشة قالت: أتى النبي «ص» رجل، فذكر أنه احترق، فسأله عن أمره، فذكر أنه وقع على امرأته في رمضان، فأتي رسول الله «ص» بمكتل يدعى العرق فيه تمر، فقال: أين المحترق؟ فقام الرجل، فقال: تصدق بهذا. ب - عن أبي هريرة «ض»، قال: بينما نحن جلوس عند النبي «ص» إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت! قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي، وأنا صائم – وفي رواية: أصبتُ أهلي في رمضان - فقال رسول الله «ص»: هل تجد رقبة تعْتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. فقال: فهل تجد إطعامَ ستين مسكينا؟ قال: لا. قال: فمكث النبي «ص» فبينما نحن على ذلك أُتيَ النبي «ص» بعَرَق فيه تمر – والعَرَق: المكتل - قال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذ هذا، فتصدّق به، فقال الرجل: أعلى أفقرَ مِنِّي يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتَيْها - يريد الحرّتين - أهلَ بيتٍ أفقر من أهل بيتي! فضحك النبي «ص» حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك.
2 وفي الأغاني، للأصبهاني: أن ربيعة بن أمية بن خلف كان قد أدمن الشراب، وشرب في شهر رمضان، فضربه عمر «ض» وغربه إلى ذي المروة، فلم يزل بها حتى توفي واستخلف عثمان «ض»؛ فقيل له: قد توفي عمر واستخلف عثمان، فلو دخلت المدينة ما ردك أحد. قال: لا والله، لا أدخل المدينة فتقول قريش: قد غربه رجل من بني عدي بن كعب. فلحق بالروم وتنصر. فكان قيصر يحبه ويكرمه، فأعقب بها. وفي العقد الفريد لابن عبد ربه: ولما أتي عمر بن الخطاب «ض» بسكران في رمضان قال له: لليدين وللفم، أولدانُنا صِيَامٌ وأنت مُفْطِر؟! وضربه مائَةَ سَوْط. ونقرأ في خزانة الأدب، لعبد القادر البغدادي،- نقلا عن ابن قتيبة في كتاب الشعراء-، عن حادثة "النجاشي". واسمه قيس بن عمرو بن مالك، من بني الحارث بن كعب: كان النجاشي فاسقاً، رقيق الإسلام، ومر في شهر رمضان بأبي سمال الأسدي بالكوفة، فقال له: ما تقول في رؤوس حملان في كرش في تنور قد أينع من أول الليل إلى آخره. قال: ويحك في شهر رمضان تقول هذا؟ قال: ما شهر رمضان وشوال إلا سواء. قال: فما تسقيني عليه؟ قال: شراباً كأنه الورس، يطيب النفس، ويجري في العظام، ويسهل الكلام. ودخلا المنزل فأكلا وشربا، فلما أخذ فيهما الشراب، تفاخرا، وعلت أصواتهما، فسمع جار لهما فأتى علي بن أبي طالب «ض» فأخبره، فأرسل في طلبهما. فأما أبو سماك فإنه شق الخص فهرب، وأخذ النجاشي، فأتي به علي بن أبي طالب، فقال: ويحك ولداننا صيام، وأنت مفطر؟! فضربه ثمانين سوطاً، وزاده عشرين سوطاً، فقال: ما هذه العلاوة يا أبا الحسن؟ قال: هذه لجراءتك على الله في شهر رمضان. ثم رفعه للناس في تبان. فهجا أهل الكوفة، فقال: إذا سقى الله قوماً صوب غادية فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا التاركين على طهر نساءهم والناكحين بشطي دجلة البقرا
3 وفي العقد الفريد نقرأ عن امتناع عمر بن عبد العزيز - لما ولي الخلافة - عن استقبال الشعراء، ومنهم الأخطل التغلبي، بسبب قوله: فلست بصائم رمضان عمري ولست بآكل لحم الأضاحي ولست بزاجر عنسا بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح ولكني سأشربها شمولاً وأسجد عند منبلج الصباح
4 ويقول المقري في النفح، عن حالة وقعت بالأندلس: قال ابن أبي الفارض: جمع الأمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء في قصره، وكان وقع على جارية يحبها في رمضان، ثم ندم أشد ندم. فسألهم عن التوبة والكفارة. فقال يحيى [بن يحيى الليثي]: تكفّر بصوم شهرين متتابعين. فلما بادر يحيى بهذه الفُتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا. فقال بعضهم له: لم لم تُفْتِ بمذهب مالك بالتخيير؟ فقال: لو فتحنا له هذا الباب سَهُل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.
5 في استقبال رمضان من الأكيد أن الناس يتفاوتون في استقبال رمضان حسب قوة الاعتقاد أو رقة الدين. وسنركز في هذا المقطع على الذين يتسخطون هذا الشهر. جاء في الأغاني: حدثني من شهد المأمون ليلة وهم يتراءون هلال شهر رمضان وأبو عيسى أخوه معه وهو مستلق على قفاه، فرأوه وجعلوا يدعون. فقال أبو عيسى قولا أنكر عليه في ذلك المعنى. كأنه كان متسخطا لورود الشهر، فما صام بعده. قال: أبو عيسى بن الرشيد: دهاني شهر الصوم لا كان من شهر وما صمت شهرا بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الإمام بقدرة على الشهر، لاستعديت جهدي على الشهر فناله بعقب قوله هذا الشعر صرع، فكان يصرع في اليوم مرات إلى أن مات، ولم يبلغ شهرا آخر. وفي أمالي القالي: نظر أعرابي إلى قوم يلتمسون هلال شهر رمضان فقال: والله لئن أثرتموه لتمسكن منه بذنابى عيشٍ أغبر. ورواه ابن عبد ربه في العقد: أريتموه، و: بذناب. وفي الأغاني أيضا، يقول حسين بن الضحاك: غدا يفطمنا الصوم عن الراح إلى الفطر ويخبرنا ابن الجراح في " الورقة " عن عباد المخرّق، ويكنى أبا المظفر، له أشعار وهجاء كثير، ... وكان خليعاً. ومن قوله في شهر رمضان: مر بي أمسِ حبيب أنا مشتاقٌ إليهِ فمضى، لم أقضِ مِنه حاجةً كانتْ لديهِ ثقُلَ الشهرعلينا ثقّل اللهُ عليهِ ونعود إلى الأغاني، لنقرأ عن عبث أبي جعفر بأبي دلامة، وإلزامه حضور الصلاة بالمسجد خلال رمضان. فلاذ أبو دلامة بالجارية ريطة، لتشفع له عند المهدي، ليعفى مما ثقل عليه: ... جاء شهر الصوم يمشي مشية ما أشتهيها قائدا لي ليلة القد ر، كأني أبتغيها تنطح القبلة شهرا جبهتي لا تأتليها ولقد عشت زمانا في فيافي وجيها في ليال من شتاء كنت شيخا أصطليها قاعدا أوقد نارا لضِباب أشتويها وصبوح وغبوق في علاب أحتسيها ما أبالي ليلة القد ر، ولا تسمعنيها فاطلبي لي فرجا من ها، وأجري لك فيها فلما قرأت الرقعة ضحكت وأرسلت إليه: اصطبر حتى تمضي ليلة القدر. فكتب إليها: إني لم اسألك أن تكلميه في إعفائي عاما قابلا؛ وإذا مضت ليلة القدر فقد فني الشهر. وكتب تحتها أبياتا: خافي إلهك في نفس قد احتضرت قامت قيامتها بين المصلينا ما ليلة القدر من همي فأطلبها إني أخاف المنايا قبل عشرينا يا ليلة القدر قد كسرت أرجلنا يا ليلة القدر حقا ما تمنينا؟ لا بارك الله في خير أؤمله في ليلة بعدما قمنا ثلاثينا
6 نقد لممارسات مجتمعية وربما كان هناك سخط خفي، ولكنه بنّاء في جانب منه، وذلك حين ينتقد الواقع المجتمعي بما يطبعه من زيف ونفاق، وتخفٍّ وراء بعض المظاهر الخادعة. يقول الصاحب بن عباد، المتوفى سنة 385 ه: قد تعدوا على الصيام وقالوا حرم الصب فيه حسن العوائد كذبوا في الصيام للمرء مهما كان مستيقظاً أتم الفوائد موقف بالنهار غير مريب واجتماع بالليل عند المساجد ونموذج من الرجز، من القصيدة الساسانية لأبي دلف الخزرجي: ومنْ قدّس أو نمّ س أو شولس بالشعر قدس: إذا أكل الكبد المطحونة المجففة في شهر رمضان خاصة وأوهم أنه يطوي، ولا يفطر في الشهر إلا مرة أو مرتين. نمس: من الناموس. شولس: من الشالوسة، وهم الزهاد يكْدون بلباس الشعر. وربما كان من قبيل النقد المجتمعي قول رجل لابن سيرين: رأيت كأنّ بيدي خاتماً، وأنا أختم أفواه الرجال، وفروج النساء. فقال: أمؤذن أنت؟ قال: نعم. قال: فلِم تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر فيمتنع الناس لأذانك؟ ودخل علي بن جبلة العكوك على حميد الطوسي في أول يوم من رمضان، فأنشده أبياتا تصور التحول " المؤقت " الذي يطرأ على سلوك فئات من الناس في هذا الشهر: جعل الله مدخل الصوم فوزا لحميد ومتعه في البقاء فهو شهر الربيع للقراء وفراق الندمان والصهباء وأنا الضامن الملي لمن عا قرها مفطرا بطول الظماء وكأني أرى الندامى على الخسف يرجون صبحهم بالمساء قد طوى بعضهم زيارة بعض واستعاضوا مصاحفا بالغناء
7 اعترافات أو تقية رأينا فيما سبق كيفية تعامل النبي مع المجتريء على رمضان. بخلاف استعمال الجلْد والنفي من طرف عمر وعلي، إلا أن الأمر يمكن أن يصل إلى القتل، مثلما حصل بالأندلس للوزير الكاتب: أبي جعفر أحمد بن طلحة. فهو - حسب النفح - كان شديد التهور، كثير الطيش، ذاهبا بنفسه كل مذهب ... قال وهو في حالة استهتار في شهر رمضان أبياتا كانت سبب قتله في سنة 631 ه : يقول أخو الفضل وقد رآنا على الإيمان يغلبنا المجون أتنتهكون شهر الصوم هلاّ حماه منكم عقل ودين فقلت: اصطحب سوانا نحن قوم زنادقة مذاهبنا فنون ندين بكل دين غير دين الرعاع فما به أبدا ندين بحَيَّ على الصبوح الدهرَ ندعو وإبليس يقول لنا آمين فيا شهر الصيام إليك عنا إليك ففيك أكفر ما نكون ولعل ابن طلحة سار على درب بعض من سبقوه، ولكنه بالغ كثيرا في اعترافاته. ولنقارنه بشاعر متوكلي هو: محمد بن إسحاق الطرسوسي، الذي يصفه المرزباني في معجم الشعراء ب: ماجن خبيث، يكثر القول في مدح شوال وذم رمضان. ومن شعره: نهار الصيام حلول الشقاء وليل التراويح ليل البلاء تمارض تحل لك الطيبات وبعض التمارض كل الشفاء وإن كان لا بد من صومه فأكثر الطعام بُعيد العشاء وإن كنت لا تستحل المدام فغادي الصيام بخبز وماء ولا بأس بالشرب نصف النهار إذا كنت في ثقةٍ بالخفاء يظن في الصوم أهل السفاه ومن دون صومي بلوغ السفهاء وقبله كان أبو نواس قد أفطر يوما من شهر رمضان، وشرب، ولاط ، وزنى. فعذله إخوانه في ذلك، فقال: دع عنك ما جَدُّوا به، وتَبَطَّلِ، وإذا لقيتَ أخا الحقيقة فاهزِلِ لا تركبن من الذنوب صغيرها واعْمِدْ إذا قارفتها للأنبلِ وخطيئةٍ تغلو على مُسْتامِها يأتيك آخرها بطَعْم الأول ليست من اللاتي يقول لها الفتى عند التذكر: ليتني لم أفعل حَلَّلْتُ لا حِرْجًا عليَّ حَرامُها ولربما حلّلتُ غيرَ محَلَّل وأبو نواس هو القائل مجونا: إذا مضى من رمضان النصف تشوق العزف لنا والقصف وأصلِح الناي ورُمّ الدف واختلفتْ بين الغواة الصحف لوْعدّ يوم ليس فيه خلف فبعضنا أرض وبعضنا سقف والبيت الأخير واضح في تبني اللواط، غير أن الصورة تصبح صادمة حين يمارس هذا اللواط بالمسجد وخلال رمضان. فهذا أبو عبّادٍ [النميري] بات مع أبي بكر الغِفاريّ، في ليالي شهر رمضان، في المسجد الأعظم، فدبّ إليه، وأنشأ يقول: يا ليلةً لي بتُّ ألْهُو بها مع الغِفاريِّ أبي بكرِ قمتُ إليه بعد ما قد مضى ثُلْثٌ من الليل على قدْرِ في ليلة القدْرِ فيا مَنْ رأى أدَبَّ منِّي ليلةَ القَدْرِ ما قام حَمْدانٌ أبو بكرِ إلا وقد أفزَعَهُ نَخْري وقبل قراءة المعوذتين على هذا الخبر، علينا بإخضاعه للمنطق. يمكن أن نسلم بالدبيب والنيك في المسجد لو أن ذلك وقع في وقت آخر. أما أن يقع في ليلة القدر فذلك ما يثير الشك، اللهم إلا أن يكون هذا " المسجد الأعظم " مهجورا، أو لا تقام فيه الصلاة في ليلة القدر حتى مطلع الفجر. ولذلك يمكن اعتبار هذا الخبر الوارد عند الجاحظ في حيوانه، مجرد جعجعة شعرية، وخيالا محضا، ربما قصد به الشاعر استدرار الإعجاب، والإبهار بالقدرة على النظم، حتى ولو كان في ذلك: تشهير، وتدنيس، واجتراء على المقدس الديني.
8 فتاوٍ وتبريرات يخف رجل الدين لنجدة المتورط، لِيوجد له مخرجا من مأزقه، بفتوى تدفع عنه فداحة موقف، أو تخفف عنه وطأة كفارة. يحكي ابن الجوزي في " الأذكياء ": أخبرنا محمد بن أبيه عن علي، أنه جيء برجل حلف فقال: امرأته طالق ثلاثاً إن لم يطأها في شهر رمضان نهاراً. فقال: تسافر بها ثم لتجامعها نهاراً. وعند ابن قتيبة في عيون الأخبار فتوى من القاضي الشعبي تشبه الطرفة. قال له أحدهم: رجل استمنى في يوم من شهر رمضان هل يؤْجر؟ قال: أو ما يرضى أن يفلت رأساً برأس. وللأعراب تبريرات خاصة عن إفطارهم في رمضان. يروي صاحب العقد الفريد عن أعرابي كان يأكل في رمضان، فقيل له: ألا تَصُوم يا أعرابي فقال: وصائمٍ هبّ يلحاني، فقلت له : اعمِدْ لصومك واتركني وإفطاري واظمأْ فإني سأروَى ثم سوف ترى من ذا يصير إذا مِتْنا إلى النار وعن آخر أتى عيْنا من ماء صافٍ في شهر رمضان فشرب حتى روِيَ ثم أومأ بيده إلى السماء فقال: إنْ كنتَ قدَرْتَ الصيا مَ، فأعْفِنا من شهر آب أوْ لا فإنّا مفطِرو ن وصابرون على العذاب وهذه فتوى شعرية - في يتيمة الدهر - للصاحب بن عباد: راسلت من أهواه أطلب زورة، فأجابني أولست في رمضان؟ فأجبته والقلب يخفق صبوة: أتصوم عن بِرّ وعن إحسان؟ صمْ إن أردت تحرجاً وتعففاً عن أن تكدّ الصب بالهجران أوْ لا، فزرني والظلام مجلل واحسبه يوماً مَرّ في شعبان
9 الخمر معاناة المخمرين في رمضان كبيرة. فقبل حلول الشهر، يبادرون إلى الإغراق في الشراب وكأنهم "يتزودون لأيامه"، ومنهم من يشرب إلى آخر اللحظات من شعبان. ومنهم من لا يتحرج في الشرب خلال رمضان - كما رأينا فيما سبق أعلاه -. وتأتي طلعة شوال للانعتاق من قيود رمضان. الخبر الأول يقول: اتفق يوم النيروز في شهر رمضان، فشرب عبد الله بن العباس بن الفضل في تلك الليلة إلى أن بدا الفجر أن يطلع، وقال في ذلك وغنى فيه قوله: اسقني صفراء صافية ليلة النيروز والأحد حرم الصوم اصطباحكما فتزود شربها لغد والثاني: عن دخول علي بن جبلة العكوك - في ثاني شوال - على حميد الطوسي، لينشده أبياتا منها: عللاني بشربة تذهب الهم وتنفي طوارق الأحزان وانفثا في مسامع سدّها الصو مُ: رُقَى الموصلي أو دحمان قد أتانا شوال فاقتبل العيش وأعدى قسرا على رمضان نِعم عون الفتى على نوَب الدهر سماع القيان والعيدان وكؤوس تجري بماء كروم ومطي الكؤوس أيدي القيان من عُقار تميت كل احتشام وتسُر الندمان بالندمان
10 نوادر الصاحب بن عباد - كما في يتيمة الدهر – يهجو قاضيا تأخر في إعلان استهلال شوال: يا قاضياً بات أعمى عن الهلال السعيد أفطرت في رمضان وصمت في يوم عيد وفي " نكت العميان" للصفدي و"معجم الأدباء" لياقوت: أن ابن مكرم قال لأبي العيناء يوماً: أحسبك لا تصوم شهر رمضان، فقال: ويلك، وتدعني امرأتك أصوم؟. وفي أشعار النساء للمرزباني: قالت عمرة بنت الحمارس الأعرابية في شهر رمضان: فُقدت شهراً تركَ الأحراحا كل حِرٍ تحسبه ذباحا مغضّناً لا يعرف الفتّاحا
11 خاتمة للكائن البشري قدرة - لا تجارى - على إعطاء التبريرات حين اقتراف ما يريد أو نبذ ما يثقل عليه، انطلاقا من مرجعيات متعددة، كاتباع هوى النفس، أو تقليد الموروث: اجتماعيا كان، أو دينيا، أو ثقافيا ... وربما ضُرب الحصار على مرجعية العقل، بسبب تدني مستواها لدى أكثرية المغرقين في الميتافيزيقا. غير أن أخطر ما في الأمر هو التطرف الأعمى الذي يركبه طرف لإيذاء طرف آخر يظن – حقا أو باطلا - أنه يخالفه الرأي أو المعتقد. فينصّب نفسه خصما وحكما في نفس الآن. والسؤال الأخير الذي يمكن أن نختم به: هل استوعبنا تسامح النبي من خلال الحديث الذي بدأنا به؟