إنه العقل العربي بشكل عام، ذلك العقل الذي حيَّر كبار العقلاء العرب، فكتبوا الكتب، وألفوا الموسوعات، ودبجوا المقالات. لكن ، في كل مرة، يُفاجَؤون أن العقل العربي يراوح مكانه، يتمسك بنظرته للحياة، ويعيش تاريخه بشكل مختلف.هو ... هو، في "بنيته" و"تكوينه" و"أخلاقه وسياسته". وللأسف الشديد، هو هو أيضا في سكونه وتوقفه. نعم ، العقل العربي – حين نَستقريء واقعنا، ونتأمل أحوالنا- يبدو ساكنا، خاملا، ومعطلا.هكذا في بيئة عربية قاحلة فكريا، ومجدبة ثقافيا ، تؤمن بالبساطة والخضوع وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان.وحين تفكر عقول الآخرين، وترتاد الآفاق العليا، نجتر نحن الموروثات ، وهي في كثير من الأحيان بمثابة السموم القاتلة للتفكير السليم ولفعل التعقُّل. ومن أراد على ذلك برهانا، فليقارن أحوالنا بأحوال الآخرين، في الغرب والشرق على حد سواء. والسؤال: لماذا نصر على تجميد هذه العقول في ثلاجة التاريخ؟ لماذا نعطِّل هذه الآلة الجبارة التي هي عنوان إنسانية الإنسان ؟ أهو قدرُنا كعرب ليس منه مهرب ؟ أم أن أمامنا أكثر من سبيل للخلاص ، كي يشتغل هذا العقل من جديد ،ويفرض حضوره العاقل ؟
أولا : أسباب ومظاهر الجمود والعطالة.
أود أن أشير بداية أن تركيزي سيكون على الأسباب الرئيسية، تلك التي لها صلة بالثقافة المهيمنة ،والتي تحد من فعالية العقل العربي وتكاد تلغي حركيّته. وفي مقدمة هذه الأسباب ، الفهم الخاطيء للإسلام . لأن باقي الأسباب ، يمكن تجاوزها ، أما ما بُنِيَ على أساس أنه الدين أو أمرُ الإسلام ، فدون الخلاص منه خرط القتاد . ذلك ، أن كثيرا من القناعات التي تصادم العقل وتشل حركيته ، أصبحت – بقدرة قادر- جزءاً من الدين . والقفزُ عليها ، هو أسهل طريق للإخراج من الملة والاتهام بالكفر والردة. لنبدأ من البداية. ما وصل إليه الغرب، باعتباره تاريخيا، الخصم والضد في أوقات السلم والوصال. وهو العدو والغازي في أوقات الحرب والخصام... ما وصل إليه هذا الغرب ، بصفتيه وموقفيه السابقين ، وحده كفيل أن يستفزنا كي نحاول جاهدين أن نفعل شيئا ذا بال، بعيدا عن العنتريات وفتل الشوارب والتغني بالماضي المجيد. لكن يبدو أن العقل العربي لم يعُدْ يُستفز ، ولا ينبض بأبسط مظاهر الحياة ، وهذا مند زمن بعيد. بل أصبح مجرد التفكير في بعض القناعات الخاطئة ،وتشغيل العقل لتجاوز ما بلي منها وما تجاوزه العصر... أصبح مثل هذا الفعل، في نظر الغالبية الصامتة -عجزا أو قهرا - وفي نظر رموزها المؤدلجين ( العلماء تجاوزا )، بدعة كبيرة. هي صنو للكفر والزندقة. وعلى طول تاريخنا ، تتكرر المأساة، ويُذبح العقل، ويقدم قربانا لتفادي غضب الآبائيين والمقلدين والجامدين وحراس الهيكل. إن أكبر خطإ وقع فيه المنظرون والمؤثرون في الساحة الثقافية العربية ، وخاصة قبل انتشار التعليم الحديث، هو إحداثهم ذلك الشرخ العجيب بين العقل والدين بصفة عامة ، وبين العقل والنقل ، بصفة خاصة، باعتبار النقل السبيلَ الأوحد للتدين الحق. لقد انتشرت فكرة لدرجة اليقين، مفادها أن الدين تسليم وقبول وتنفيذ آلي، ولا مجال لتدخل العقل ولا فائدة من تشغيله أصلاً . إن الدين غيب، وتغييب العقل هو السبيل للتعاطي مع الغيب . فنحن أمة إتباع لا أمة ابتداع. ولترسيخ هذه القناعة، يعمدون إلى الترهيب والوعظ والوعيد ، أي القهر الفكري والإجبار تحت مسمى التقوى والخضوع . وقد يبدو الأمر بسيطا، بل هناك من يعتقد أن هذا الخلل غير حاصل بالمرة، بل هو مجرد تهويل وتضخيم ليس إلا. ولكن في أعماق لا شعورنا ، وفي موروثنا الثقافي الذي مازال يشكل حاضرنا بنسبة كبيرة ، وفي عقلنا الجمعي ، تتجلى هذه الحقيقة واضحة ساطعة.وواقعُنا الحالي خيرُ شاهد على هذه الفرضية.لقد وقع خلط كبير بين الدين بمفهومه الروحاني التعبدي،وبين الدين باعتباره يغطي كل مجالات الحياة. وهو خلط حَجَبَ العقل وأفسد الإيمان. ينبغي أن يتوضح لدى المسلم العربي أمران : إذا تعلق الأمر بالعبادات أو الروحانيات ، التي محلها الوجدان،فالمطلوب هو الإتباع والتسليم والإيمان.ولكن بوعي مع استحضار المآلات والمقاصد.فهي عبادات ترقق الوجدان، وتهدب العواطف، وترتقي بالخلُق، بوعي ويقظة تامين.وإلا هل يَعْتقد دعاة التسليم الأعمى أن العبادات هي محطات للغيبوبة والشرود ؟ فإذا تجاوزنا هذا الجانب ، الذي يشكل نسبة محدودة جدّا من البناء الكلي للإسلام، فإن ما عداه هو مجال لانطلاق العقل وإبداعه. وليس هناك أدنى قيد على اشتغال هذا العقل، لا في التشريع ولا في السياسة بمفهومها العام ، ولا في العلوم الطبيعية ، ولا في باقي مناحي الحياة. ويا ليت أنصار التسليم والإيمان وقفوا عند هذا الحد، فربما وقع الانفلات من قبضتهم في محطة ما من محطات التاريخ. فكل عصر ظهر فيه عقلاء يُعلون من قيمة العقل وحسناته.ولكنهم دائما كانوا يصطدمون بذلك الجدار الصلب السميك، الذي ساهم في وضعِ أساساتِه وتقويةِ دعاماتِه ورفعِ أعمدتِهِ وأركانِهِ، أنصارُ تغييبِ العقل وسدنةُ الهيكل. لقد اشترطوا النقلَ السبيلَ الأولَ ،وأحيانا الأوحدَ، للالتزام بالدين . فأصبح الدين ، ليس التزاما بالإسلام في صورته الأولى التي تجد حُجّيتَها فقط في القرآن الكريم وما بيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم بسلوكه الرسالي العملي التوضيحي . بل التدينُ ، حسب هؤلاء، هو الإيمان والعمل بالموروث الفقهي منذ أن ظهر الفقهاءُ.وكل مناقشة لهذا الموروث ، تورد صاحبها مورد التهلكة. فلكي يتبث المرء حسن التزامه عليه أن يصدق كل هذه الكتب وكل هذه المصنفات ، لا لشيء سوى أنها تتناول مواضيع الدين ولو بشكل أسطوري أحيانا. إن التعرض لشخصية من شخصيات التاريخ بالنقد والتصويب، تبعا لمعارف العصر ومعطياته ، هو بنظر هؤلاء نوع من التنطع والعقوق الفكري بل والكفر أحيانا. مؤلم حقا أن ندور في هذه الحلقة المفرغة، والمؤلم أكثر أن يكون ذلك باسم الإسلام. إن قضيةً بسيطةً أحيانا تشغلنا عن قضايانا المصيرية ، بسبب هذه العقلية الغيبية الفقهية. الفقه ملأ كل منافذ الحياة، حجب نورَ العقل وضيق عليه .نغرق في عقد مقارنات بين أبي بكر وعلي ، أيهما أحق بالخلافة ؟ ونستفتي أجيالا من الأموات ونستنطق جبالا من الجماجم في كل صغيرة وكبيرة ، ونختلف في حلق اللحية وفي لباس المرأة وفي القبض والسدل ، وفي موضوعات أخرى تافهة جدا، من قبل إرضاع الكبير.... في العالم كله ، يترك الكبير الرضاعة منذ سنتين وإلى الأبد ، ونحن ندمن الرضاعة إلى أرذل العمر. إنها صورة رمزية حقا لعقلنا الطفولي . مرتبطون بالأثداء ، ومدمنون على نفس الحليب، والنتيجة مزيد من التخلف والتقهقر والتراجع إلى الوراء. وإن تعجب، فعجب قولهم، إن الدين أحاط بكل شيء وإلى الأبد. وهم لا يقصدون الأحكام التي هي بطبيعتها من الدين، بل يقصدون حتى أسباب الحضارة والعمران والتقدم. فلا داعي إذا، حسب هذا الفهم، إلى إعمال العقل وتشغيله فيما ينفع الناس في دنياهم. وها نحن بعد قرون من الاحتكاك بالحضارة المعاصرة، نراوح نفس المكان . نستهلك ثمرات عقول الآخرين، التي هي قوام الحضارة، بكل شره وتكالب . ولا نخجل أن نقتل عقولنا نحن ونئدها في مهدها. نحارب الإبداع، ويسيل لعابنا عندما نرى منتجات الحضارة.وهو مظهر آخر من مظاهر طفولتنا المؤبدة وإقبالنا الغريزي على الرضاعة السلبية في كل مراحل العمر.
ثانيا: همساتٌ لعلّ العقل يستيقظ ويشتغل.
أريد أن أكون منسجما مع العنوان الذي اخترته لهذه المقالة المتواضعة، إذ لا أهدف أن أرسم للقراء خريطة طريقِ مكتملة أو طريقة للنجاة. إن هناك مشاريع فكرية رائدة في هذا الباب ، عكف عليها مفكرون عرب ومسلمون ، وأثروا المكتبة العربية بإنتاجهم الراقي جدا.لا أذكر إسما دون آخر، فالقاريء مؤهل أن يختار ما يراه أقرب إلى نفسه وأنسب لعقله وأنفع لدنياه وأخراه . لأن الوصاية على عقول الناس هي بداية تغييب هذه العقول وحجزها عن الاشتغال. إن هدفي التنبيه والتحفيز وخلق نوع من التوتر وعدم الرضا عسى أن يتلو ذلك الفعلُ والتفكيرُ والإنجازُ. أبدأ بنفسي، وأحاول أن أشارك القراء الكرام ذلك القلق الداخلي وتلك التموجات والانفعالات العميقة ، وبالتالي أتلقى وجهات نظرهم وتصويباتهم وانتقاداتهم.فهي إذا مجرد همسات، كي نحاول الخروج من الغيبوبة ، ونحاول تشغيل عقولنا في كل شيء. إن ثقافة التسليم والخضوع والارتهان لفقه الأوائل لا تنسجم مع روح العصر ولا مع روح القرآن :المصدر الأساسي واليقيني لدين الإسلام . وما سواه ، من كتب ومراجع ومصنفات، تبقى خاضعة للمناهج البشرية والتاريخية، التي لا تسلم من النقص والقصور والتأثر بمعطيات العصر . فإلى الهمسات. الهمسة الأولى : إن الله صورنا في أحسن صورة. وخلقنا في أحسن تقويم. ووهبنا الحواس وغرس فينا الملكات والمواهب.ففي حياتنا اليومية، ولكي نكسب قوت يومنا الذي يضمن لنا الاستمرار البيولوجي فقط، نشغل أيدينا وأرجلنا وقوانا ، فإن توقفنا عند هذا الحد ، كان ذلك مجرد استمرار. أما الحياة ، فهي في تشغيل العقول، بحيث نتساءل وننتقد ونحلل ونفهم ونعتبر... إنها مهمة ليست بالسهلة، لأن الرتابة والتكرار والجمود هو من طبع الإنسان العادي، أما التغيير والابتكار والإبداع، فيحتاج إقداما وشجاعة وغير قليل من المخاطرة والاقتحام. الهمسة الثانية : إن العالم المتقدم من حولنا قطع مع كثير من الممارسات التي لا يقوم الدليل العقلي على جدواها بلْهَ صحتها. وكل الفتوحات والمعارك والغزوات هي الآن في مجال العقل. ونحن نعايش – حتى لا أقول نعيش – تقدما رهيبا في كل مناحي الحياة. فلا يعقل أن يكون هذا حال العالم اليوم، ونستمر نحن على الاقتيات من فتات المعارف البالية المتوارثة والمكرورة إلى حد التخمة . إن المناهج التي أساسها النقل والتصديق الأعمى وتكريس الجمود ، أثبتت عدم جدواها ومحدوديتها أمام معطيات العصر ومعارفه ومناهجه. فمن العبث الاستمرار في الاجترار، والتقليد والتكرار.
الهمسة الثالثة : لا سبيل إلى الخروج من فتننا الطائفية والحزبية والقبلية ، ولا خلاص من الصراعات الحدودية والعقدية والكلامية، إلا بالاحتكام إلى العقل. إن النقل والاعتزاز بالموروث الفكري لدرجة الهوس والهذيان ، هو وقود الفتن والصراعات .مثلا ، إن العقل والمنطق السليم يقولان ، لا لإغلاق الحدود وبناء السدود بين الدول العربية القطرية . فبدل التغني بوحدة لن تقوم ، وبأخوة تُهيِّجُ العواطفَ أحيانا ، وأحيانا تجعلَها وقودَ الصراعات والنزاعات التافهة، وجب الأخذ بمنطق العقل. هذه ألمانيا، بنازيتها العنصرية واستعلائها العرقي المبني على أوهام التاريخ ، ألغت حسابات الجغرافية وما تقتضيه الأعراف الدبلوماسية وحسن الجوار، فغزت جل دول أوربا ، وأهانت فرنسا واحتلتها. الآن ، ألمانيا إلى جانب فرنسا ، هما نواة الاتحاد الأوربي القوية. تجاوز القوم هناك النعرات الطائفية والدينية والصراعات الحدودية. استحضار العقل قضى على الأحقاد التاريخية، ولو عاشوا في الماضي ، يقتاتون نفس الأفكار الهدامة ويجترون القناعات الإيديولوجية العقيمة، للبثوا في كهفهم إلى ما شاء الله . قدرا محتوما.
الهمسة الرابعة : لقد أصبح من بديهيات هذا العصر ومن قوانينه ، أن فتوحات العقل لا تتوقف ، بل هي في صعود مستمر. وكل الأخطاء التي تكون نتاجا لتحكيم العقل ، يمكن للإنسان تجاوزها ، بمزيد من الجهد وإعمال العقل واستنفاد كل الطاقة المطلوبة لتشغيل هذه الآلة الجبارة. فلا داعي أن يصطاد دعاة تغييب العقل مثل هذه الأخطاء كي يبنوا عليها أمجادهم الواهية ، وبالتالي تقوية مواقفهم الجامدة والتقريرية. آخر السطر، لا خيار أمامنا إلا تجاوز الوضع الحالي الموسوم بكثير من مظاهر النقص والعطالة والفتور.ولا سبيل لذلك إلا بأن يشتغل العقل.قولا واحدا. هذا ، والله أعلم