مخطئ من يظن أن الكلمة ليست بكائن حي. إني أخالها كائن مثلنا تماما تعيش وتمشي وتسافر وتُضحك وتُبكي وتَبني وتُهدم وأخيرا تموت إن فقدت مقومات الحياة. فكم من كلام يموت ويندثر بمجرد ولادته وكم من كلام يعمر وينتشر حتى بعد موت صاحبه. يقول سبحانه وتعالى:"فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ" الرعد 17. إن كلمة الحق باقية غالبة ولا تحتاج لمن يدافع عنها لأن الحق يدافع عن نفسه بنفسه. تأتي هذه الكلمات في ظل المنع والتضييق الذي يطال كل شاهر للكلمة بدل البنادق وكل ممتط صهوة الكتابة دفاعا عن العدل والحق. بالأمس اعتقل الصحافي المقتدر والشجاع رشيد نيني الذي سلط قلمه الجريء طوال عمله الصحفي على ناهبي المال العام والانتهازيين والوصوليين الذين لم يجرأ أحد على الإشارة إليهم. اختار هذا القلم أن لا يركن إلى السكون والسكوت على الظلم في وقت كان فيه الكلام عن الفساد "جريمة". كان بإمكان رشيد نيني أن يحيى حياة الترف وينعم بالهدوء كما ينعم به الكثيرون ممن باعوا أقلامهم أو آثروا السكوت على الباطل والظلم ولكن رشيد لم يشأ أن يكون كالشيطان الأخرس، اختار مصلحة الوطن والمواطنين بدل مصلحته الشخصية. رؤيته وزخم تجاربه جعلت منه صحفيا من نوع خاص، نوع نادر فعلا. لنقرأ هذه الكلمات من سيرته الذاتية يوميات مهاجر سري لنعرف كم هو مختلف حقا منذ البداية: "..الرباط. الدارالبيضاء. ذهابا وإيابا. قضيت وقتا طويلا أتردد على مقرات الجرائد. جرائد ناطقة باسم أحزاب اليمين. باسم أحزاب الوسط. جرائد ناطقة باسم مدرائها فقط. جرائد تصدر هكذا من وقت إلى آخر ثم تختفي فجأة بعد أن يحصل أصحابها على منصب في مكان ما، لم أكن أبحث لكي أناصر قضية بعينها. كنت أبحث عن عمل قار. لكن أحدا لم يقبل بي. يقبلون بتوظيف بنات سمينات يحررن مقالات مليئة بالحماقات ويرسلونهن لإنجاز تغطيات في الفنادق ليأكلن بالمجان. أصابني اليأس. أصبحت أرى كل شيء على حقيقته. الأشياء من قمة اليأس تبدو واضحة المعالم .." ص 159. باعتقالك رشيد أرادوا شنق الكلمة الحرة، ولكن هيهات هيهات. ستبقى كما كنت دائما هائجا كما البحر، عبابك دليل أعماقك وفي أعماقك يسكن حب هذا الوطن. ستنكسر على نتوءات صخوك العصي لو ألقيت، عصي الطواغيت طبعا. صوت آخر تم إسكاته فجأة لأنه اختار الدعوة إلى الإصلاح، إنه الشيخ عبد الله نهاري الذي تم توقيفه من طرف مندوبية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بوجدة. لقد كان صوت هذا الداعية على منبر مسجد الكوثر يصدح بالحق آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر معتمدا في منهجه على ما قاله الله ورسوله لا أقل ولا أكثر. لم يرق كلام هذا الشيخ الفصيح البليغ وقدرته على الخوض في السياسة والدين وقدرته أيضا على الإقناع بالحجة والبرهان، لم يرُق أصحاب النفوذ والأيادي الطويلة فقرروا إنزاله من على منبره. أتساءل، أمن المعقول أن يتم توقيف هذا الشيخ في بلد إسلامي ومملكة إمارة المؤمنين وبعد شعارات الإصلاح وحرية التعبير؟ إن كانت تهمته أنه قال اللهم هذا منكر فمعه حق، اللهم هذا منكر.. !!