سألت أحد الفضلاء الذين جمعوا بين تقنيات القانون الدستوري كما تلقنه كليات الحقوق اللاييكية، وبين الوافر من الفقه الشرعي في المعاملات، سألته قائلا: "لماذا خرس جل العلماء، في المجالس العلمية، أو في دار الحديث الحسنية، أو في كليات الشريعة، أو كليات الدراسات الإسلامية ... عن تلبية مطلب المغاربة في دسترة الشريعة الإسلامية في المجال السياسي والاقتصادي والقضائي والتنموي؟ ولم تلك المؤسسات هي موجودة أصلا، ويؤدى لها من جيوب المواطنين إن لم تقم بهذا العمل المصيري؟ " فأجابني بصوت خافت: "إذا ظهر شيء من ذلك في الدستور، فلسوف تتكالب علينا قوى اللاييكية، ولسوف يتهموننا بالإرهاب، والرجعية، والظلامية، وبكل الأوصاف التي يرددها أعداء الإسلام." قلت له: " والحل إذن، هو أن ننزل عند رغبتهم، ونحقق بغيتهم في تحنيط الشريعة وتعطيلها، وتزوير الدين/المعاملات ، بغرض وأد الشورى في اختيار الحكام، وتقديس بعض الأشخاص، وتنزيههم عن الخطأ، واستثنائهم من التقويم والمحاسبة؟ أليس ذلك هو أصل الفساد والاستبداد؟" فسكتت عن صاحبي برهة، ودارت في رأسي بعض الأعذار، ألتمسها لساداتي الفقهاء... ربما قاطع علماؤنا المشروع الخطير، غضبا على تأمير دعاة اللاييكية على ورشة تعديل الدستور، وهم المكلفون شرعا بحماية حمى الدنيا والدين، لأن العلماء ورثة الأنبياء... وأعني العلماء الذين شهد لهم الناس بالكفاءة الفقهية، والرؤية السياسية الصحيحة، ولا يخشون في الله لومة لائم، ولا تؤثر عليهم منح أو محن الحكام. ربما انتظر العلماء تكليفا من الحكام، لكي يقوموا بالمهمة. وفي هذه الحال، هل هم في غفلة عن التكليف الذي فرضه عليهم المشرع المطلق، سبحانه وتعالى عما يشركون؟ أو أنهم تجاهلوا حق الشعب عليهم؟؟ ربما توافقوا على إلصاق المسؤولية بعضهم ببعض، وسكت هذا عن هذا، ليمضي الله قدر إشهاد الناس بعضهم على بعض يوم القيامة...
استفتاء الشعب على ماذا؟
ثم رجعت إلى صاحبي بتساؤل آخر لم أستطع أثناءه كتم غصة الحزن على غربة الدين في زمن الزيف وفساد الذمم: " ألم يتعين بعد ذلك على رجالات الصحوة الإسلامية أن يوحدوا صفوفهم المبعثرة، في إطار مشروع لا يجهل خطورته إلا من سفه نفسه، مشروع دستور إسلامي على شاكلة الدستور الإيراني بعد تغيير مقتضيات الفقه الجعفري بمقتضيات الفقه المالكي؟ وزد عليه حتى ما يتنطع به بعضهم من عقيدة أشعرية، وسلوكية جنيدية، تقعرا، يروم تعقيد دين الله على العباد لكي يصبحوا كهنوتا له: رهبانا أو أحبارا. فنحن لا نطالبهم بإعادة اختراع العجلة من جديد، أو ابتكار زناد النار من فراغ. ونكره منهم الغلو والتنطع، والترف الفكري، الذي يعسر ولا ييسر دسترة أحكام القرآن. فهذا يتشدق بتخصصه في فقه كذا، يردده أينما حل وارتحل، وكأن الصحابة غفلوا عنه. وآخر لفقه كذا. وآخر في تفريعات المتأخرين، وآخر اختزل المسألة في تثبيت المتغيرات التي هي إلى زوال، وغفل عن الثوابت الحقيقية من حفظ للدين والأرواح والأعراض والعقول والثروات... ويوشك أن تتنزل عليهم كراهية الشعب، فيضيع اللب وسط زبد القشور. والأمور واضحة وضوح الشمس في النهار، وما عقدها إلا التكلف أو التحايل لتبرير واقع الفساد، أو تسميته بغير اسمه... فإن أفلحوا في تجاوز تلك العقبات، وأنجزوا تلك المهمة الجهادية التي كلفهم الله والشعب بها: مهمة إعداد دستور قرآني ، تركوا الخيار للشعب. والشعب سوف يطالب باستفتاء حول مشروعين واضحين: بين دستور لاييكي، يَرضَى عنه عتاة أعداء الرسائل السماوية، وبين دستور يُْرضِي الله والرسول والمؤمنين. والخيار للشعب وتلك هي آليات الديمقراطية، أليس كذلك؟" فأجابني صاحبي متأسفا هو بدوره على ما صارت إليه أمورنا، لما وسد الأمر لغير أهله : "ربما يلزمنا انتظار نصف قرن آخر، حتى تصلنا دسترة الشريعة من البرلمان الفرنسي، الذي يعمل الآن جاهدا لاكتشاف اقتصاد لاربوي، ينطلق من أحكام الاقتصاد الإسلامي... وغيره من التشريعات المستمدة من القرآن... بعد اعترافهم بإعجازها في حل كل معضلات البشرية الضائعة اليوم في الأزمات والترديات".
سنة التداول على السلطة والثروة
وهنا كشف لي سر الصرف الذي جاء في العنوان، يلخصه استفهام واحد: هل جاء حقا دور العجم في نصرة الدين؟... ربما سنة الله في تداول الأيام بين الناس، عربهم وعجمهم، على السلطة، وعلى ثروات الأرض، ظاهرها وباطنها، هي سبب هذا الصرف الغريب لعلماء العرب الرسميين، عن تحمل أعباء الجهاد التشريعي... ربما ذلك القعود عن تلبية الأمر الشرعي، جر عليهم قدر الله في إبعادهم عن شرف حمل الرسالة تبعا لقوله تعالى: {{ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}} [ آل عمران؛ 90 ] صََرفَهم القدر على أن يأتوا بمثل ما أنتجه العقل العجمي المسلم، في المسألة الدستورية، بكل شجاعة وكفاءة، عندما تحرر من حكم الطاغوت، ومن الشرك، ومن الخوف من أعداء الرسائل السماوية. لكن الشباب المغربي، سوف لن ينتظر وصول قوانين الشريعة عن طريق برلمان العجم الفرنسيين. المغاربة لهم عجمهم، الذين سوف يقومون بالمهمة أحسن قيام. وجل أقطارنا لهم عجمهم، أكراد أو أمازيغ، أو أقباط، أو كنعانيون أو أحباش... وفعلا، حسب مختبر التاريخ، كلما عجز العنصر العربي، في هذا الثغر الغربي لبلاد الإسلام، عن حمل أمانة إقامة الدين كله، يصير المغاربة كلهم عجما رساليين، عبارة عن كيان مسلم أمازيغي، تَنْتَشر دولته في ربوع الأرض الفسيحة التي انتشر عليها المرابطون، والموحدون، والمرينيون، سهلِها وجبلِها، صحرائِها ونجودها، أزغاِرها وأكدالها. فلا تسمع همسا بعد ذلك للوازع الجغرافي للانفصال، إذ لا يعقل أن يسجن الأمازيغ في منطقة دون أخرى من مجالهم التاريخي الرحب. ولن يستسلم المغاربة لأراجيف التمييز العرقي، لأن العرب والأمازيغ صاروا صِهْرا ونسَبا واحدا، مزجتهم دماء العمومة والخؤولة، ووحدهم الدين الذي " لا فضل فيه لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
قيم العدل والحرية أي موازين ؟
وكما أن اللغة لم تشكل لأجدادنا أي عقدة أو ذريعة للانفصال والفرقة، تعين علينا أن نحتضن حكمة إخواننا عجم المشرق في دسترة اللغة العربية وهي ليست لغتهم كما ورد في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية : " بما أن لغة القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية هي العربية، وإن الأدب الفارسي ممتزج معها بشكل كامل، لذا يجب تدريس هذه اللغة بعد المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية في جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية." [المادة السادسة عشرة.] واللغات الجهوية يفعل بها أصحابها ما يليق بها، دون حرج، حسب قانون الحفاظ على التنوع الطبيعي الذي سنه الله في خلقه. واللغة العربية هي الأداة والوسيلة التي مكنت فقهاء العجم من اكتشاف أسرار شريعة القرآن... تبع ذلك اقتناع، ثم جهاد للصدع بالحق، بينما استكان بعض علماء دولة العرب، وسكتوا على شعار الطاغية العربي الملهم " لا سياسة في دين، ولا دين في سياسة". وقد استهلكوا الفرصة التي أعطيت لهم، طيلة قرن كامل من الركون إلى دين اللاييكية العلمانية. والله مجدد دينه على رأس كل مائة سنة، وقد كان احتلال البلاد سنة 1912، وذلك هو سر نجاح ثورة الشباب، التي ما كانت في حسبان جهابذة المستشرفين، أو في تكهنات أجهزة المستخبرين. وقريبا، سواء بتسهيل الحكام العرب، أو بتعسيرهم، والتعسير هو الأرجح في التوقعات، وتلك آية من آيات الله الحية نراها في الإعلام، ليقضي الله أمرا كان مفعولا في الجبابرة ... قريبا سوف تكتب بإذن الله موادا في دستورنا القرآني، ربما لن يقبلها أولئك الذين لا يفهمون ضرورة الحفاظ على التنوع العقدى، والتعددية الثقافية، كمثل المادة الرابعة من دستور إخواننا عجم المشرق، جاء فيها: " يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها، هذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى إطلاقاً وعموماً. ويتولى الفقهاء في مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك." [المادة الرابعة]. فإن كتب لمشروع دسترة أحكام القرآن أن يبرز من القوة إلى الفعل، ويتبناه الشعب بعد الاستفتاء، فتلك هي سفينة نوح المنجية من دين الفساد والانقياد والاستبداد. وإن أراد اللاييكيون فرض دستورهم على الشعب المسلم بحيلهم التي لدغنا من جحرها مرات ومرات، فلا أقل من المطالبة بتعايش الدستورين، وتنافسهما في تقنين القيم والعمل الصالح. وذلك هو المخرج السلمي لتجنب الفتن البادية سحبها في الأفق. ومهما حذر هذا المقال وبالغ في النصح، فلن يكون سوى محاولة، فقيرة إلى تأييد ربها، لتحيين تحذير من لا ينطق عن الهوى، خير خلق الله كلهم، من عرب ومن عجم، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه: عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[[ ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قلت يا رسول الله وما المخرج منها ؟ قال كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله... الحديث.]] خرجه الترمذي... نسأل الله تبارك وتعالى الحفظ والستر واللطف في ما جرت به المقادير.