لم تتوقف نتائج الانتخابات البلدية التي أجريت في تركيا في نهاية شهر اذار/مارس الماضي عند حدود فوز حزب العدالة والتنمية بنسبة قياسية وتاريخية على أحزاب المعارضة، وإنما كانت مؤشرا كبيراً على شعبية قادة الحزب وفي مقدمتهم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الذي تحدى مرارا أحزاب المعارضة بالاستقالة إذا لم يحقق حزبه الفوز في هذه الانتخابات. وقد كان رئيس الوزراء التركي عند وعده ووفى به فلم يستقل، لأنه لم يخسر، ولكنه سيستقيل هذه المرة لأنه فاز. وميزة الاستقالة القادمة لأردوغان من منصب رئيس الوزراء أنها لن تفرح أحزاب المعارضة، لأنها ستأخذه إلى منصب رئيس الجمهورية التركية القادم، الذي يعتلي عرش رئاسة الجمهورية كأول رئيس جمهورية لتركيا ينتخب انتخاباً مباشراً من الشعب التركي، وبذلك يكون الفوز في الانتخابات البلدية كما كان متوقعاً مفتاحاً لتغيير خارطة المناصب السياسية في تركيا. وفي حال فوز أردوغان في انتخابات الرئاسة في منتصف آب/أغسطس من هذا العام، سوف يضع تركيا في موضع جديد على خارطة السياسة الدولية، لأن هذا المنصب ومنذ تأسيس الجمهورية بقي منصباً فخرياً وشرفياً، أكثر من كونه منصباً قيادياً للسياسة التركية الخارجية أو الداخلية، بالرغم من أن الدستور الذي أعقب الانقلاب العسكري عام 1980 وهو الدستور المعمول به حتى الآن، قد أعطى رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة وأكبر من ذي قبل، إلا ان لا احد من رؤساء الجمهورية التركية السابقين استطاع أن يستخدم صلاحياته الدستورية، بمن فيهم الجنرال كنعان إفرين الذي وضع الدستور او استكتبه من المختصين لتوسيع صلاحياته والتحكم بسياسة الجمهورية التركية. ويكمن سر ضعف رؤساء الجمهورية التركية السابقين في انهم لم يكونوا منتخبين من الشعب التركي مباشرة، وإنما كان يتم انتخابهم عبر توازنات الأحزاب الممثلة في البرلمان التركي، وبما توصي به المؤسسة العسكرية في أغلب الأحيان، ولذلك لم يستطع احد منهم أن يكون رئيساً قوياً للجمهورية التركية بعد أتاتورك إطلاقاً، وبقيت القيادة الفعلية لمنصب رئيس الوزراء المنتخب من الشعب عن طريق التمثيل النيابي، من هنا يستطيع أردوغان أن يعتلي هذا المنصب الرئاسي الجمهوري بوصفه الرئيس الجمهوري الثاني الذي يعتليه ويحكم فيه بموجب صلاحياته الدستورية، ومن أهمها: 1 يحق لرئيس الجمهورية ان يطلب عقد جلسات للبرلمان ومخاطبته فيها. 2 يحق لرئيس الجمهورية جمع مجلس الوزراء والاجتماع به والمشاركة في قراراته. 3 يحق لرئيس الجمهورية تعيين ولاة المحافظات، ورؤساء الجامعات والمناصب العليا في الدولة. هذه بعض الصلاحيات لرئيس الجمهورية والتي لم يستطع أحد من الرؤساء السابقين استخدامها لعدم شعورهم بالقرب من الشعب او اختيار الشعب لهم، والتي سوف يستخدمها أردوغان بشكل بارز. وفي حال فاز أردوغان في الانتخابات الرئاسية فسوف يؤسس للجمهورية التركية الثانية بعد التأسيس الأول لمصطفى كمال اتاتورك، وسوف يفتح المجال لتنافس واسع على منصب رئاسة الوزراء، لعدة شخصيات مقربة من أردوغان، والأكثر حظاً فيهم حتى الآن هو وزير الخارجية الحالي احمد داود اوغلو، فهو اكثر حظاً بهذا المنصب من نواب أردوغان الآخرين في منصب رئاسة الحزب او رئاسة الوزراء الحالية، وانتقال اوغلو لمنصب رئيس الوزراء سوف يفتح باب التنافس على منصب وزير الخارجية أيضاً، الذي تؤكد مصادر مطلعة في الاستخبارات التركية ل'القدس العربي' ان مدير المخابرات الوطنية التركية هاكان فيدان بات المرشح الاقوى لمنصب وزير الخارجية، وهو من الشخصيات المقربة والموثوقة عند رئيس الوزراء أردوغان، مع ما قد يثيره من متاعب في العلاقات الخارجية ومع أحزاب المعارضة وجماعة فتح الله غولن. هذه التوزيعة لأكبر مناصب الجمهورية التركية، سوف تفتح باب السؤال عن المستقبل السياسي لرئيس الجمهورية الحالي عبدالله غول، هذا السؤال غير متجاهل وهو قيد الدراسة والنقاش، ليس وحده وإنما مع بعض الأسماء الكبيرة في تاريخ حزب العدالة والتنمية، القديمة والجديدة، والتي التقت مع حزب العدالة والتنمية على طريق بناء تركيا الحديث مثل نائب رئيس الوزراء نعمان قورتوشلو وغيرهما، هذه التوزيعة كانت على جدول الاجتماع الأول بين رئيس الجمهورية عبدالله غول ورئيس الوزراء أردوغان يوم الخميس بعد إعلان النتائج الرسمية للانتخابات البلدية. إن تركيا اليوم تضع الخطط نحو بناء بيت رئاستها الأبيض والإدارة الرئاسية حول رئيس الجمهورية الجديد، وسيرها على هذه الخطط رهن التغيرات السياسية القادمة، فأحزاب المعارضة وإن خسرت جولة الانتخابات البلدية، فإنها لن تستسلم في انتخابات رئاسة الجمهورية، وإن كانت حظوظها ضعيفة ولكنها لن تستلم في الانتخابات البرلمانية في العام القادم، وقد يكون من الخطورة أن يكون حزب العدالة والتنمية حريصاً على حصد مناصب الجمهورية والبرلمان والحكومة من خلال الدعم الشعبي الكاسح له، لأن ذلك سوف يجعل تركيا ذات لون واحد وفكر واحد وتوجه واحد، بينما القوة والمتانة ان تكون تركيا قوية بكل مكوناتها السياسية، مع وجود رغبة حقيقية عند حزب العدالة والتنمية بمساعدة أحزاب المعارضة لتطوير نفسها، وتحسين خطابها وافكارها لتكون مشاركة وناقدة بإيجابية لمشاريع بناء تركيا القوية والمتطورة حتى عام 2023 ، في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية الأولى.