عندما لاحظت دومينيك بونز أن ابنها الخجول توقف عن التدخين في جوف الليل وبدأ يصلي بانتظام في منزل الأسرة بمدينة تولوز في جنوبفرنسا.. أبلغت السلطات. لم تتحرك السلطات لأن الابن نيكولا لم يثر أي شبهات من قبل. وفي يوم من أيام العام الماضي اختفى ثم تلقت بونز رسالة نصية جاء بها أن ابنها البالغ من العمر 30 عاما “استشهد” في 22 ديسمبر كانون الأول وهو يقود شاحنة ملغومة في مدينة حمص بسوريا. نشأ نيكولا في ضاحية يقطنها أبناء الطبقة المتوسطة لأبوين ملحدين لكنه اعتنق الإسلام عام 2009. ومثل أخيه الأصغر الذي مات في سوريا قبل أشهر.. انضم إلى جماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام المنبثقة عن تنظيم القاعدة. هما مثالان لعدد متزايد يقدر بنحو 2000 حتى الآن رحلوا عن بلادهم الأوروبية للقتال إلى جانب مقاتلين إسلاميين في سوريا بغرض الإطاحة بالرئيس بشار الأسد. ويتملك بونز الغضب لأن جهودها لتنبيه الحكومة إلى ما اختلج في نفسها من قلق قوبلت بعدم اكتراث وهي ترى أن ما تقدم عليه فرنسا والدول الأوروبية الأخرى من سجن من يضبط وهو يحاول بلوغ سوريا يزيد الموقف سوءا. قالت بونز “هذا جنون. في السجن ستزيد رغبتهم في العودة إلى سوريا… يبدو الأمر كما لو أن الحكومة تبذل قصارى جهدها لضمان استمرار هذا.” وشكلت بونز -وهي سكرتيرة عسكرية متقاعدة- مجموعة لدعم الآباء الذين تطرف أبناؤهم. وخلال الشهر الحالي احتجز ثلاثة شبان أعمارهم بين 21 و26 عاما في مطار بشرق فرنسا لتنفيذ أحكام بالسجن لما بين عامين وستة أعوام بتهمة التخطيط لارتكاب أعمال إرهابية. ويمثل المسلمون ما يصل إلى 70 في المئة من نزلاء السجون الفرنسية. وعدد الأئمة المعتدلون الذين تكلفهم الدولة بمهام الدعوة قليل ويسد الفجوة أئمة غير مدربين يروجون للفكر المتشدد وكراهية الغرب. ويعتقد أن الإسلامي المتشدد محمد مراح الذي قتل سبعة أشخاص في تولوز ومحيطها عام 2012 ازداد تطرفا خلال سجنه. * العلاج خير من السجن السفر لسوريا بالنسبة للأوروبيين ما هو إلا رحلة رخيصة إلى تركيا ثم عبور سريع للحدود. لذا فالمشكلة تواجهها بلدان عديدة. ويشتبه في أن بريطانيا عمره 41 عاما من جنوب شرق انجلترا يدعى عبد الواحد مجيد قاد شاحنة ملغومة وصدم بها سجنا في حلب مما أتاح هرب مساجين. وألقت الشرطة البريطانية القبض هذا العام على 16 شخصا للاشتباه في ارتكاب جرائم إرهابية متصلة بسوريا بعضهم لم يتجاوز عمره 17 عاما في حين أنها اعتقلت 24 شخصا في اتهامات مماثلة خلال عام 2013 بأكمله. ومن ضمن هؤلاء معظم بيج الذي كان قد أمضى ما يقرب من ثلاث سنوات في المعتقل الأمريكي في خليج جوانتانامو في كوبا للاشتباه في انتمائه لتنظيم القاعدة. وتقول ألمانيا إنها تواجه خطرا متزايدا مع رجوع أكثر من عشرة متشددين ألمان من سوريا وقد اكتسبوا معرفة باستخدام الأسلحة وصنع القنابل. ويعتقد أن حوالي 300 ألماني انضموا إلى صفوف مقاتلي المعارضة في سوريا. وقالت بلجيكا في يناير كانون الثاني إنها تتابع ما يقرب من 200 بلجيكي ممن قاتلوا في سوريا تحسبا لعودتهم للبلاد. وقتل نحو 20 شخصا بالفعل في القتال بين صفوف فصائل إسلامية. ومعظم الأوروبيين الذين يقاتلون في سوريا ينضمون إلى جبهة النصرة أو الدولة الإسلامية في العراق والشام وهما الجماعتان الأقرب إلى القاعدة واللتان يرى الغرب أنهما الأخطر في سوريا. وذكر راديو فرانس إنترناسيونال أن متطوعين فرنسيين شكلوا كتيبة مقاتلة داخل جبهة النصرة تتألف من أكثر من مئة مقاتل تجمع بينهم إمكانية التواصل باللغة الفرنسية لا العربية. ويعتقد أن ما بين 600 و700 من المواطنين الفرنسيين أو المقيمين في فرنسا تطوعوا للقتال أو يشاركون في تجنيد آخرين للقتال في سوريا. وكما هو الحال في فرنسا تتخذ العديد من الحكومات الأوروبية موقفا صارما فهي تزج بالمشتبه بهم في السجون أو تزيد من صعوبة عودتهم للوطن. وقالت بريطانيا إنها ستدرس تجريد من يحاولون العودة بعد مشاركتهم في القتال بسوريا من الجنسية المزدوجة. وتريد بونز لمسات علاجية أهدأ تحول دون دفع الناس إلى التطرف .. لكن هذا أمر نادر الحدوث. تقول “المشكلة هي أن الحكومة تظن أن كل هؤلاء الفتية يمكن أن يصبحوا مثل مراح. ما نحتاجه هو وسيلة لعلاجهم مقدما.. القيام بعمل وقائي بمساعدة أطباء نفسيين وخبراء في هذه المشكلة.” وقالت فرنسا إنها ستخصص خطا ساخنا للأسر التي ترصد علامات على تحول أبنائها إلى التطرف. * التجنيد قال قاض فرنسي الشهر الماضي إنه عندما تعود الموجة الأولى من المتطوعين إلى البلاد فإنها تكثف نشاط التجنيد مما يسهم في زيادة أعداد المتطرفين. ولا تعرف بونز من الذي أقنع ابنيها بالذهاب إلى سوريا والقتال لكنها تشتبه في شخص التقاه نيكولا في ضاحية لزيزارد التي قضى فيها مراح معظم سنوات طفولته والتي تعيش فيها غالبية من المهاجرين في أجواء تختلف كثيرا عما كان عليه الحال في المكان الذي نشأت فيه. ويعتقد أن تولوز أرض خصبة للتجنيد مثلها مثل نيس وستراسبورج وباريس. وفي أواخر يناير كانون الثاني فتحت السلطات تحقيقا رسميا مع حدثين من المدينة بتهمة التخطيط لارتكاب أعمال إرهابية وذلك بعد محاولتهما الذهاب إلى سوريا واعتقلت عددا آخر. وقالت بونز ان ابنها الحاصل على شهادة عالية في المبيعات لكنه وجد صعوبة في الحصول على وظيفة كان “فتى لطيفا” قبل أن يعبث آخرون بأفكاره. وبعد شهر من اختفاء نيكولا أول مرة بصحبة رجل آخر.. اتصل تليفونيا وقال إنه أعطى شخصا ما رسالة يسرد فيها أسباب تركه البلاد. لكن الرسالة لم تصل. كانت بونز لاتزال على اتصال به عبر الهاتف وسكايب عندما ظهر وهو يمسك بمصحف وبندقية كلاشنيكوف في تسجيل فيديو نشره موقع يوتيوب في يوليو تموز 2013 ودعا فيه الرئيس الفرنسي فرانسوا أولوند لاعتناق الإسلام وحث الآخرين على الانضمام للقتال. وبعد بث التسجيل أصبح نيكولا يمثل وجه الفكر الجهادي في فرنسا. وتصدرت صورته وصورة أخيه الصفحة الأولى في عدة صحف. وقالت أمه إن ابنها بدا مختلفا في الفيديو “كما لو كان مسلوب الإرادة”. * لا تعاطف قالت بونز إنها رغم إبلاغها السلطات بمخاوفها لم تلق مساعدة تذكر من الدولة. وبعد أن سافر الابن إلى سوريا في أوائل 2013 كتبت رسالة إلى أولوند تطلب فيها المساعدة في إعادته إلى أرض الوطن. وقالت الرئاسة إنها أحالت طلبها إلى وزارتي الداخلية والعدل لكن لم يتخذ أي إجراء. وأجرت اتصالا بجهاز الأمن الداخلي لكن السلطات لم تطلعها قط على أي شيء رسميا. وقالت “عند هذه المرحلة وجدت نفسي وحيدة تماما. لم تكن لدي أدنى فكرة عمن يمكن أن يعينني.” وقال وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس في يناير كانون الثاني إن الحكومة تعتزم تخصيص خط ساخن للأسر. وقال أمام البرلمان “لابد وأن تنتبه الأسر لسلوكيات معينة… وسنكون بحاجة لإيجاد سبل تصل المسؤولين المحليين ورؤساء البلديات بهذه الأسر لتنبيه أجهزتنا.” وبالنسبة لبونز كان أسوأ ما في الأمر هو صعوبة إعادة الجثمان لفرنسا لدفنه بها. وهي تقول إن السلطات الفرنسية لم تبد تعاطفا وإن الموقف كان معقدا لأن فرنسا قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا. وتمكنت من الاتصال بآباء آخرين لكن معظمهم كان يشعر بالخزي. ومع غياب أي دعم من السلطات أنشأت بونز والآباء الآخرون مجموعات دعم. وأطلقت على مجموعتها اسم “إذا كانت الأشياء لا تتغير فلنتصرف نحن”. وفي بلجيكا أنشئت “جمعية الآباء المهتمين” وتهدف إلى منع القصر من مغادرة البلاد. وفي مدينة ستراسبورج بشرق فرنسا احتجت مجموعة من الجمعيات المسلمة المعتدلة في يناير كانون الثاني رافعة شعار “ارفعوا أيديكم عن أبنائنا”. أما بريطانيا فتدير في إطار استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب برنامجا أطلقت عليه اسم “قناة” يهدف إلى تقديم الدعم “لمن هم عرضة للتجنيد من قبل متطرفين ينتهجون سبيل العنف” وتشارك فيه الشرطة والمدارس والأخصائيون الاجتماعيون وشخصيات أخرى من مجتمعات محلية. وتدير أيضا منظمات أهلية مثل “مؤسسة التغيير النشط” ومقرها لندن مشروعات للتعامل مع التطرف وتجنيد إرهابيين. وقالت بونز إن أمهات آخريات لجهاديين صغار السن اتصلن بها ومنهن أم في نيس والمجموعة العاملة في بلجيكا. واتفق الجميع على أن الحكومات الأوروبية بحاجة لإيجاد سبل أفضل لمنع اجتذاب الشبان إلى التطرف. وأضافت “الأمهات على خط الجبهة. هناك آباء أيضا بالطبع لكن ما من شيء يقف حائلا في وجه الأمهات.”