وُلد إبراهيم عواد إبراهيم البدري في سنة 1971 في سامراء، وهي مدينة عراقية قديمة تقع على الحافة الشرقية من المثلث السُني شمالي بغداد. وكان نجلَ رجلٍ تقي يدرّس تلاوة القرآن الكريم في مسجدٍ محلي. أما إبراهيم نفسه، فقد كان منطوياً، قليل الكلام، وبالكاد يُسمع صوته عندما يتحدث. والجيران الذين عرفوه عندما كان مراهقاً يتذكرونه كشخصٍ خجول لا يختلط بالآخرين. وحتى عندما كان الناس يصطدمون به خلال مباريات ودية في كرة القدم، وهي رياضته المفضلة، كان يظلُّ محتفظاً بهدوئه ولا يبدو عليه أي انفعال. ولكنَ صوراً شخصية له من تلك السنوات تُظهر صفة أخرى مغايرة: حدةٌ صارمة في العينين الداكنتين تحت جبهةٍ سميكة مجعدة. في وقتٍ مبكر، كانت كُنية إبراهيم هي “المؤمن”. وعندما لم يكن في المدرسة، كان يقضي معظم وقته في المسجد المحلي، منهمكاً في دراساته الدينية. وعندما يعود إلى بيته في نهاية اليوم، حسبما أفاد شامسي، أحد أشقائه، كان يُسارع الى وعظ أي شخصٍ يضلَّ الطريق ولا يتقيد بتعاليم الشريعة الإسلامية. أصبح إبراهيم البدري الآن معروفاً للعالم باسم “أبو بكر البغدادي”، حاكم الدولة الإسلامية أو ما يُعرف بداعش، وأصبحت لديه القدرة ليس على وعظ أي شخصٍ داخل الأراضي الواقعة تحت سيطرته إنْ لم يكن إيمانه مطلقاً فحسب بل على معاقبته وحتى إعدامه. ويلقبه أتباعه ب “أمير المؤمنين”، وهو لقبٌ مخصصٌ للخلفاء، وهم الحكام الروحيون والزمنيون الأعلى من أيام الإمبراطورية الإسلامية العظمى من العصور الوسطى. ورغم أن مملكته الخاصة أصغر من ذلك بكثير، فهو يحكم الملايين من الرعايا. وبعضهم موالون له بتعصب، أما كثيرون آخرون فينحنون له خوفاً من العواقب الدموية لتحديهم نسخته الوحشية عن الإسلام. منذ صعود البغدادي المفاجئ في العام 2014 -عندما اتخذ دور ذلك الوحش الذي أمر بذبح وحتى حرق من يعتبرهم أعداءه وهم على قيد الحياة ثم بثَّ المشهد على موقع اليوتيوب- والمقالات الإخبارية والكتب تتبع مسيرة تطرفه وتنسبها إلى فترة الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003. ورغم أن الغزو الأمريكي أشعل النار ومكنّها من الانتشار، غير أنَّ تطرف البغدادي قد بدأ، في الواقع، قبل ذلك بكثير. وأوقد هذا التطرف في نفسه الأصولية الدينية، وشمولية صدام حسين العلمانية، وحاجته للسيطرة على الآخرين. * المرتِّل (قارئ القرآن): كانت عائلة البغدادي، التي تنتمي إلى الطبقة المتوسطة الدنيا، معروفة بتقواها، وفخرها بنسبها والسلالة التي تنحدر منها. وقال جدوده، وهم من الطائفة السُنية، إنهم ينحدرون من سلالة النبي محمد عبر القادة الشيعة، الذين يرقدون في ضريح القبة الذهبية في سامراء. ويمثل نسب البغدادي حالة واحدة من الهويات الدينية المتعددة والمتداخلة في العراق، والتي تتناقض مع الشرخ المفترض القديم بين السُنة والشيعة. وقد قام تنظيم القاعدة بتفجير الضريح بعد سنوات إبان الغزو الأمريكي للعراق، في محاولةٍ لجعل هذا الانقسام واقعاً راسخاً. كان ربُّ الأسرة، عواد، والد البغدادي، نشطاً في الحياة الدينية للمجتمع. وبدأ الأمر في المسجد، حيث كان والده يقوم بالتدريس، إذ حصل البغدادي في سن المراهقة على باكورة نشاطه كمدرّس، يقود أطفال الحي في ترديد تلاوة القرآن. وكانت هذه أول تجربةٍ له في مجال الخطابة والتعليم الديني. وحين كان يرتل القرآن، وهي مهنة تحظى بالمهابة في الإسلام، امتلئ صوته الهادئ بالحياة، فنطق الحروف في نبرات ثابتة يتردد صداها. وكان يكرس ساعاتٍ لا تُحصى من وقته لإتقان التفاصيل الدقيقة لفن التلاوة والترتيل. ورغم تديّن عائلة البغدادي، فقد انضم بعض أعضائها إلى حزب البعث، وهو منظمة اشتراكية مكرسة لهدف الأمة العربية الواحدة. ومع أن القادة البعثيين كانوا متساهلين مع التعبد الديني الخاص، لا بل حتى يشجعونه أحياناً باعتباره متنفساً للحماسة الدينية، إلَّا أنهم كانوا حذرين من النشاط الديني باعتباره يُشكل تهديداً لحكمهم. وقد هيمنت الأفكار البعثية على الساحة السياسية العراقية وعلى أجهزة الدولة منذ أواخر الستينيات، مما دفع المواطنين الذين يريدون وظائف حكومية للانضمام إلى الحزب، بغض النظر عن قناعاتهم الشخصية. خدم اثنان من أعمام البغدادي في أجهزة الأمن في عهد صدام، وأصبح أحد أشقائه ضابطاً في الجيش. كما خدم أخ آخر له في الجيش وقُتل خلال الحرب الضروس التي استمرت ثماني سنوات، عندما حارب العراق ضدَّ إيران في الثمانينيات، بدعمٍ ضمني من الولاياتالمتحدة. وربما كان البغدادي سينتهي إلى المصير ذاته لو استمرت الحرب لفترة أطول قليلاً، أو لو أن قِصَر البصر الذي يعاني منه لم يجعله غير مؤهلٍ لتأدية الخدمة العسكرية. * الطالب: تمثل عائلة البغدادي، في نواحٍ كثيرة، تنوع التأثيرات والولاءات المتغيرة باستمرار، والتي كانت مطلوبة من أجل البقاء في عراق صدام حسين. إذ لم يكن لديهم علاقات مع حزب البعث فحسب، حتى لو كانت لأغراضٍ عملية، ولكن هناك أدلة على أن العديد من أفراد أسرة البغدادي، وربما حتى والده، كانوا من السلفيين – أتباع شكلٍ متزمتٍ ومتطرفٍ من الإسلام السُني يُمارس على نطاقٍ واسع في المملكة العربية السعودية وأنحاء كثيرة من الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق، حيث توجد له جذورٌ عميقة. ويُذكر أن محمد بن عبد الوهاب، مؤسس السلفية السعودية، تلقى علومه الدينية في مدينة الموصل العراقية في القرن الثامن عشر، وأن أفراداً من المبشرين السلفيين نشروا معتقداتهم في جميع أنحاء العراق في القرن العشرين. معظم السلفيين يحضّون الناس على طاعة الحكام المسلمين، حتى السيئين منهم، إلا أنّ صدام اعتبر السلفيين تهديداً لحكمه، لأنهم يدينون العلمانية ويرفضونها ويريدون من الدول أن تفرض الشريعة الإسلامية. وعندما بادر السلفيون في العراق إلى تنظيم أنفسهم في جمعياتٍ لمواصلة عملهم التبشيري في أواخر السبعينيات، وضعهم صدام في السجن بتهمة تشكيل منظماتٍ غير قانونية. ولكنه تراجع عن هذه الخطوة في الثمانينيات، خلال الحرب مع إيران الشيعية، لأنه كان بحاجةٍ إلى الحفاظ على الدعم من الأقلية السُنية في العراق، والتي تشمل السلفيين. ولكن في العام 1990، بعد عامين من انتهاء الحرب مع إيران، ضغط صدام على الآلاف من السلفيين للتوقيع على تعهدٍ بعدم التأثير على العراقيين الآخرين وحملهم على تبني قضيتهم. وفي الوقت نفسه، سعى صدام إلى استرضاء رعاياه الورعين من خلال تأسيس جامعة في العام 1989 وإطلاق اسمه عليها، وهي جامعة صدام للدراسات الإسلامية. وكانت الجامعة مجرد واحدة من طرقٍ عديدة حاول فيها صدام استخدام الدين لتعزيز قبضته على المجتمع العراقي. كجزء من حملة الإيمان التي بدأت في العام 1993، حاول صدام استمالة المحافظين الدينيين عن طريق قيامه بإغلاق النوادي الليلية، ومنع الاستهلاك العلني للكحول، وفرض بعض العقوبات القاسية التي تنص عليها الشريعة الإسلامية، مثل قطع اليد أو القدم كعقوبة للسرقة. وفي العام 1994، قال في اجتماع لمجلس الوزراء إن تردده في وقتٍ سابق حول تطبيق العقوبات الإسلامية لم يكن مبرراً له. وأضاف قائلاً إن مثل هذه العقوبات يمكن أن تردع الجريمة بشكلٍ أفضل من تلك الأقل شدة. وما لم يُذكر هو حقيقة أنها كانت أيضاً مفيدة لجعل أتباعه يخضعون له مقدماً نفسه كمدافعٍ عن الإيمان. وكجزءٍ من “حملة الإيمان” التي أطلقها، شجع صدام دراسة القرآن وترتيله، واعداً باستخدام أموال الدولة لتدريب 30 ألف معلم للقرآن، حتى إنه تبرع ب 28 لتراً من دمه، وذلك لاستخدامها كحبرٍ في إعداد نسخة من القرآن، ليكون مقرها في مسجد أم المعارك. وربما كان لقيام صدام حسين بإنشاء وظائف جديدة لتدريس القرآن أثراً على المسار المهني الأكاديمي للبغدادي. وحيث لم يكن بوسعه دراسة القانون في جامعة بغداد، كما أراد، بسبب علاماته المتوسطة في المدرسة الثانوية -كان على حافة الرسوب في اللغة الإنجليزية- درس البغدادي القرآن هناك بدلاً من ذلك. عندما تخرج البغدادي من جامعة بغداد في العام 1996، التحق بجامعة صدام للدراسات الإسلامية حديثة الإنشاء، حيث درس فيها لنيل شهادة الماجستير في تلاوة القرآن الكريم، وهو موضوعه المفضل. ومما لا شكّ فيه أن معارف عائلته البعثية ساعدته على الدخول في برنامج الدراسات العليا، الذي يتطلب الالتحاق به درجة عالية من الانتقائية. وكانت رسالة الماجستير التي قدمها البغدادي بمثابة تعليقٍ وشرح على نصٍ مجهول وغامض من العصور الوسطى حول تلاوة القرآن الكريم. وكانت مهمته التوفيق بين إصدارات مختلفة من المخطوطة. وهذه مهمة مملة، فالعمل فيها لا يتطلب سوى القليل من الخيال، ولا مناقشة لمحتوى المشروع – وهو مشروع مثالي لشخصٍ متعنتٍ في أفكاره (دوغماتي). وحصل على درجة الماجستير في العام 1999، والتحق فوراً ببرنامج الدكتوراه في الدراسات القرآنية في جامعة صدام. خلال فترة وجود البغدادي في كلية الدراسات العليا، أقنعه عمُّه، إسماعيل البدري، بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهي حركة عالمية تسعى لإقامة دولٍ تحكمها الشريعة الإسلامية. وفي معظم البلدان تبنت جماعة الإخوان، التي فيها أعضاءٌ من الليبراليين والمحافظين، نهجاً حذراً تجاه التغيير السياسي، يقتصر على العمل من داخل النظام. وكثير من الإخوة في بغداد، بمن فيهم أولئك الذين التقى البغدادي بهم في البداية، كانوا من السلفيين المسالمين، ممن أرادوا من الدول أن تفرض الشريعة الإسلامية، إلا أنهم لم يدعوا إلى الثورة إذا ما فشلت الدول في القيام بذلك. غير أن البغدادي انجذب بسرعة نحو تلك القلة من السلفيين، الذين قادتهم عقيدتهم الصارمة للدعوة إلى إسقاط الحكام، الذين بنظرهم قد خانوا الإيمان. وأطلقوا على أنفسهم مسمى السلفيين الجهاديين. وكان شقيق البغدادي الأكبر سناً، جمعة، عضواً في هذه الحركة. وكذلك كان مرشده، محمد حردان، الذي كان عضواً لمرةٍ واحدة في جماعة الإخوان، وشارك في الحرب ضد السوفييت في أفغانستان في الثمانينات. انكب البغدادي على مطالعة كتابات هؤلاء الإخوان المسلمين الذين اعتنقوا الجهادية. وتحت تأثير وصايتهم، نفذ صبره من التيار السائد في جماعة الإخوان المسلمين التي اعتبر أن أعضاءها هم “أناس يُنظرون لكن لا يعملون”. وبحلول العام 2000، كان البغدادي يتلهف شوقاً للدخول في قتال. * نجم كرة القدم: إن معظم ما نعرفه عن البغدادي بين عامي 2000 و2004 يتعلق بحياته الشخصية، وحتى هذه المعلومات متناثرة وقليلة للغاية. ويبدو أنه كان متزوجاً من امرأتين وأنجب ستة أطفال. وزوجته الأولى، أسماء، هي ابنة خاله. وتزوج الثانية، إسراء، في وقتٍ لاحقٍ ربما بعد الغزو الأمريكي في العام 2003. وكغيره من المسلمين المحافظين، حجب البغدادي زوجتيه بعيداً عن أعين الناس، وهو نفسه كان منعزلاً ولم يختلط اجتماعياً كثيراً، مفضلاً قضاء الوقت مع عائلته في شقتهم الصغيرة بالقرب من مسجد الحاج زيدان في حي طوبجي المتواضع من بغداد. وهناك كان يُدرّس تلاوة القرآن الكريم لأطفال الحي ويرفع الآذان داعياً إلى الصلاة بصوته الرنان عبر مكبرات الصوت في المسجد. كان المسجد أيضاً هو المكان الذي أتاح له أن ينغمس بممارسة هوايته الأخرى المفضلة، وهي لعبة كرة القدم. كان للمسجد نادٍ لكرة القدم، وكان البغدادي هو نجمه، ويُعرف باسم “ميسي فريقنا”، في إشارة إلى ليونيل ميسي، نجم كرة القدم الأرجنتيني الشهير. ويتذكر زملاؤه أنه في كثيرٍ من الأحيان كان يفقد أعصابه عندما يفشل في إحراز هدف. كما كان يفقد أعصابه لدى رؤية ما كان يعتبره سلوكاً غير إسلامي. فوفقاً لأحد جيران البغدادي في ذلك الوقت، حسبما ورد في مقال نشرته صحيفة التلغراف العام الماضي على موقعها الإلكتروني، أصيب في أحد الأيام باستياءٍ شديد عندما شاهد مدعوين في حفل زفافٍ منخرطين في نشاطٍ أزعجه وأصابه بالصدمة. فرفع صوته عليهم مستغرباً: “كيف يمكن لرجالٍ ونساءٍ الرقص معاً هكذا؟”. وتدخَّل البغدادي لمنع المحتفلين من مواصلة الرقص. * السجين: في وقتٍ متأخرٍ من العام 2003، بعد أن هزم الأمريكيون جيش صدام ثم حلّوه، ساهم البغدادي في تأسيس جيش أهل السُنة والجماعة، وهي جماعة متمردة قاتلت القوات الأمريكية وحلفاءها المحليين في شمال ووسط العراق. وبعد فترةٍ وجيزة، في فبراير 2004، ألقي القبض على البغدادي في الفلوجة أثناء زيارة صديقٍ له كان اسمه على قائمة المطلوبين من قبل أمريكا. وتم نقله إلى مركز الاعتقال في معسكر بوكا، وهو مجمعٌ واسع جداً في جنوبالعراق. وجرى تصنيفه في ملفات السجن بأنه “معتقل مدني”، مما يعني أن معتقليه لم يعرفوا أنه كان جهادياً. وخلال الأشهر العشرة التي مكثها في الحبس، لم يكشف البغدادي النقاب عن تشدده، وكرَّس نفسه ووقته للتثقيف الديني. وفي هذا السياق، يقول أحد زملائه من السجناء أجرت صحيفة ذا غارديان مقابلة معه من دون ذكر اسمه: ” كان البغدادي شخصاً هادئاً يتمتع بكاريزما. ويمكن أن تشعر بأنه كان شخصاً ذا أهمية”. كما كان يؤم المصلين أثناء أداء الصلاة ويلقي خطب يوم الجمعة ويعطي دروساً دينية للسجناء الآخرين. ومرة أخرى أدهش رفاقه في السجن –وساجنيه أيضاً دون شكّ في ملعب كرة القدم. ومرة أخرى أيضاً جرت مقارنته بلاعبٍ أرجنتيني عظيم: فقد كانوا يسمونه “مارادونا “في معسكر بوكا. لقد حرص البغدادي على التقرب من كل السجناء السُنة ومن الأمريكيين أيضاً، باحثاً عن فرصٍ للتفاوض مع سلطات المعسكر والتوسط بين جماعات متنافسة من السجناء. ويذكر مصدر “الغارديان” أنه: “في كل مرةٍ وقعت مشكلة في المعسكر، كان البغدادي جزءاً مهماً منها. كان يريد أن يكون الرئيس في السجن. وعندما أنظر إلى الوراء الآن، أرى أنه كان يستخدم سياسة “فرّق تسد” للحصول على ما يريد، وقد نجحت سياسته وأفلح في مسعاه”. كان العديد من السجناء في بوكا، الذين بلغ عددهم 24,000 معتقل، من العرب السُنة الذين خدموا في الجيش وأجهزة الاستخبارات في عهد صدام. وعندما سقط صدام، سقطوا بدورهم، نتيجة لقيام الأمريكيين بعملية استبعاد وتطهير البعثيين، والبروز الجديد لنفوذ الأغلبية الشيعية في العراق، التي تعرضت لاضطهادٍ على المدى الطويل. ولو لم يكن جميع المعتقلين جهاديين عند دخولهم السجن، فإن الكثيرين منهم أصبحوا كذلك عندما غادروه. لقد كانت المنشورات الجهادية المتطرفة تُوزع بحريةٍ تحت أعين الأمريكيين الساهرة ولكن الغافلة. ويتذكر سجين آخر، ممن أجرى مراسل موقع “المونيتر” الإخباري مقابلاتٍ معهم: “مجندون جدد كان يتم إعدادهم في المعسكر، وما إن يُطلق سراحهم حتي يصبحوا قنابل زمنية موقوتة”. وكلما حضر سجين جديد، كان زملاؤه “يعلمونه، ويلقنونه، ويعطونه توجيهاتٍ، فيغادر المعسكر كأنه لهبٌ مشتعل”. وكان البغدادي الأخطر من بين تلك اللهب، فهو الرجل المسؤول عن معظم ألسنة النار التي التهمت المنطقة بعد أقل من عقدٍ من الزمان. إن العديد من البعثيين السابقين في بوكا، وبعضهم صادقهم البغدادي، عادوا إلى الساحة معه من جديد من خلال صفوف الدولة الإسلامية. وأردف السجين الذي قابلته صحيفة “الغارديان” قائلاً: “لو لم يكن هناك السجن الأمريكي في العراق، لما ظهرت الدولة الإسلامية الآن”. وأضاف: “كان بوكا مصنعاً. لقد صنعنا جميعاً، وأسْهمَ في بناء أيديولوجيتنا”. وقد أطلق السجناء على المعسكر اسم “الأكاديمية”، وخلال الأشهر العشرة التي مكثها البغدادي فيه، كان عضوا في هيئة التدريس. وبحلول الوقت الذي أفرج فيه عن البغدادي في 8 ديسمبر 2004، كان لديه جهاز رولودكس (Rolodex) افتراضي لإعادة الاتصال مع شركائه في المؤامرة وأتباعه ومريديه: لقد كتبوا أرقام هواتف بعضهم بعضاً على المطاط المرن لملابسهم الداخلية. * المؤتمن: قبل شهرين فقط من إطلاق سراح البغدادي، أنشأ تنظيم القاعدة فرعاً لشبكته الإرهابية في العراق، وذلك من خلال استيعابه واحتوائه لميليشيا جهادية بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، وتعيينه مسؤولاً عنها. ظن الزرقاوي، وهو مواطن أردني أراد أن يقيم دولة إسلامية، أن بوسعه استخدام تنظيم القاعدة في العراق لإثارة حرب أهلية طائفية بين الأقلية السُنية في العراق والأغلبية الشيعية، مما يُجبر أهل السُنة إلى اللجوء إلى جماعته من أجل الحماية. وعندما خرج تنظيم القاعدة في العراق منتصراً من حمام الدم هذا، لم تكن هناك أي حواجز فعلية، كما كان متوقعاً، أمام إنشاء الدولة الإسلامية التي كان يحلم بها. ووافق زعماء تنظيم القاعدة على مضضٍ على برنامج الزرقاوي الصارم لأنهم أرادوا أن تكون لهم يدٌ في التمرد الجديد ضد الأمريكيين. لكنهم سرعان ما شعروا بالأسف لتأييدهم هذا، عندما أدى العنف المروع الذي ارتكبته جماعة الزرقاوي والذي نُشر على الانترنت، إلى نفور جموع المسلمين، الذين طالما سعى تنظيم القاعدة لكسب تأييدهم للمضي قُدماً في حربه العالمية على أمريكا وحلفائها. من المؤكد أن البغدادي قد التقى بجهاديين من دائرة الزرقاوي خلال الفترة التي قضاها في بوكا، وهو بلا شك قد انجذب إلى جماعة جهادية أكثر تطرفاً من مجموعته. وبعد إطلاق سراحه من بوكا، اتصل البغدادي هاتفياً بأحد الأقارب في تنظيم القاعدة، الذي بدوره أوصله بالمتحدث باسم الجماعة في العراق. وأقنع هذا المتحدث البغدادي بالذهاب إلى دمشق لتنفيذ مهام لتنظيم القاعدة، مؤكداً له أن بوسعه أيضاً الانتهاء من أطروحته لنيل الدكتوراه أثناء عمله معهم، علماً بأن علماء الدين الذين تلقوا تدريباً أكاديميا يُعتبرون ظاهرة نادرة في المنظمات الجهادية. لذلك، كان يبدو منطقياً أن يُرسل باحث مبتدئ إلى سوريا، حيث لن يكون بوسع الأمريكيين الإمساك به. وما إن وصل البغدادي إلى هناك، سعى لتنفيذ المهمة الموكلة إليه، وهي ضمان تماهي دعاية تنظيم القاعدة في العراق على شبكة الإنترنت وانسجامها مع نسخة الإسلام المحافظة جداً التي يتبناها التنظيم. إن صلات البغدادي القبلية في العراق وعلاقاته مع الجماعات الجهادية الأخرى كانت مفيدة له، لأنه كان في عدة مناسبات قادراً على مساعدة الجهاديين الأجانب على عبور الحدود السورية إلى وطنه العراق. وفي ذلك الوقت، كان الرئيس السوري، بشار الأسد، يغض الطرف عن قوافل المقاتلين الأجانب الذاهبين إلى العراق، وذلك من أجل معاقبة الولاياتالمتحدة على غزوها البلاد. ولم يكن يعلم أن تلك القوافل نفسها سوف تنطلق في يومٍ من الأيام في الاتجاه المعاكس، بعد أن ثار الشعب على حكمه في العام 2011. وفي العام 2006، كان تنظيم القاعدة في العراق يُشكِّل منظمة شاملة تندرج تحت مظلتها الجماعات الجهادية المقاومة للاحتلال الأمريكي. وكانت الجماعة التي يقودها البغدادي من أول المنضمين لها. وبعد فترةٍ وجيزة، أعلن الزرقاوي عن نيته إقامة دولةٍ إسلامية، مخالفاً بذلك وبشكلٍ مباشر تعليمات تنظيم القاعدة له للانتظار إلى ما بعد انسحاب الأمريكيين ولحين يتمكن تنظيم القاعدة في العراق من كسب التأييد الشعبي لإقامة الدولة. وعندما قُتل الزرقاوي في غارةٍ جوية أمريكية في شهر يونيو، استمر خلفه، أبو أيوب المصري، وهو جهادي مصري، في تنفيذ الخطة. وأعلن عن تأسيس الدولة الإسلامية في شهر أكتوبر، وحلَّ تنظيم القاعدة في العراق، معلناً أن جنود التنظيم هم الآن جزءٌ من الدولة الإسلامية. وتولى المصري منصب وزير الحرب، رغم أنه كان هو من يدير المنظمة الجديدة فعلاً. أما الأمير الفخري للمجموعة، أبو عمر، وهو عراقي، فكان رئيساً صورياً في البداية ليس إلا. ضمنياً، تعهّد القادة الجدد للدولة الإسلامية بالولاء لأسامة بن لادن وبايعوه، ولكنهم في العلن حافظوا على التظاهر أن الدولة الإسلامية مستقلة عن تنظيم القاعدة. وكانوا يأملون أن ينظر الآخرون إلى منظمتهم باعتبارها دولة مستقلة، أو حتى أنها تمثل بدايات استعادة الخلافة، وهي الإمبراطورية المترامية الأطراف من فترة صدر الإسلام. وطان الغموض الذي كان يحيط بالعلاقة بينهما (تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية) قد تطور لاحقاً إلى صراعٍ بين الجهتين. نظرأ لمؤهلاته العلمية، أُسندت للبغدادي مسؤولية الشؤون الدينية في الدولة الإسلامية في بعضٍ من “محافظاتها” العراقية. ولأن الجماعة لم تكن لها سيطرة في الواقع على أي أرض، فإن هذا يعني إلى حدٍ كبير أن البغدادي ظلَّ مسؤولاً عن ضمان أن دعاية الدولة الإسلامية تمثل وتعكس عقيدتها بدقة، وأن جنودها يلتزمون بالقيود وينفذون العقوبات القاسية التي تنص عليها الشريعة الإسلامية، أينما كانوا ومتى استطاعوا. فالمتهمون بالزنا الذين يتم القبض عليهم كانوا يُرجمون، وشاربو الكحول كانوا يُجلدون، واللصوص تُقطع أيديهم، “والمرتدون” يُعدمون. أخذ البغدادي إجازة من مهامه الدينية، وظهر في العاصمة بغداد في 13 مارس 2007، لمناقشة أطروحته لنيل الدكتوراه. وكان الموضوع يتعلق بنسخة نقدية أخرى لكتاب من العصور الوسطى عن التجويد وتلاوة القرآن، يدور البحث فيها عن كيفية تلاوة القرآن. ولم يتمكن مستشار البغدادي في تكريت من الحضور بسبب العنف المحتدم في العراق، فأرسل ملاحظاته على الأطروحة، مشيراً إلى بعض الأخطاء ومقترحاً بعض التعديلات. ولكنه عموماً كان راضياً عن عمل الطالب، وحصل البغدادي على درجة الدكتوراه في علوم القرآن بتقدير “جيد جداً”. إن شهادات البغدادي العلمية الحديثة، و�