رغم 14 قرنا من وجود الدين الاسلامي، ورغم عصر التكنولوجيا والانترنيت والمواقع المتدفّقة معلومات وفتاوى وأفكار، مازال المسلمون يواجهون إشكالات عويصة ومعقدة في علاقتهم بأبسط شعائر وفرائض تديّنهم. رحلة جوية رابطة بين مدينتي الدارالبيضاءونيويورك، تنطلق يوميا حوالي الساعة الثانية بعد الزوال، تحوّلت إلى مجتمع صغير باختلافات فكرية وفقهية عويصة ومشاهد غريبة. المسافرون المسلمون (مغاربة أساسا) الذين كانوا مسافرين على متن هذه الرحلة، انقسموا إلى ثلاث فئات. الأولى تتمثل في من أفطر منذ البداية، وصعد الى الطائرة بعدما تناول وجبة الغذاء أو وهو يلوك قطعا من الحلويات أو سندويتشا، وهناك من اختار أن يصوم ويفطر بتوقيت المغرب، رغم أن اشعة الشمس كانت تطل من النوافذ، وهناك من اختار أن يصوم ولا يفطر إلا بعد غروب الشمس في امريكا، اي حوالي منتصف الليل بالمغرب. بدأت الحكاية منذ اللحظات الاولى لإقلاع الطائرة، كانت المضيفات تقمن بجولتهن الأولى لتوزيع السماعات على الركاب، لتمكينهم من استعمال شاشاتهم الخاصة في مشاهدة الافلام او الاستماع للموسيقى أو القرآن، حين استوقف أحد الركاب مضيفة تمرّ قربه، وكان يجمع بين الحديث بالانجليزية ذات اللكنة الأمريكية وبعض الكلمات من اللغة العربية الفصحى، فيما يوحي شكله أنه ممن يعرفون بالافرو أمريكيين. سأل الرجل المضيفة عما يجب عليه فعله بخصوص الصوم، فأخبرته أن الأمر يعود إليه وأنها شخصيا لا تصوم أثناء الرحلات، وحين استفسر عمّ إن كان عليه أن يفطر بتوقيت المغرب أم أمريكا إن هو واصل صومه، أخبرته أن عليه انتظار غروب الشمس حيثما كان، ليعلن فورا أنه سيفطر ولن يواصل الصوم. حان موعد توزيع أولى وجبات الرحلة التي ستدوم ثمان ساعات، فكان المضيفون والمضيفات يواجهون بين الفينة والاخرى برفض بعض الركاب تسلّم وجباتهم بمبرر أنهم صائمون. كان الأمر ينتهي بانتقال المضيف مباشرة الى الراكب الموالي، أو يفتح باب حوار فقهي ديني في محيط الراكب الذي يواصل صيامه. كان المشهد غريبا لركاب تجمعهم نفس الرحلة ونفس الديانة، لكنّ بعضهم يلتهم طبق الدجاج أو السمك، حسب الاختيار، والبعض الآخر يُمعن في إغماض عينيه تجاهلا للمشهد أو يدفنهما بين دفّتي مصحف قرآني، فيما اختار البعض الآخر الغوص في نوم عميق رغم رائحة الأكل التي عمّت الطائرة. “حقّك فالجنة”، خاطب أحد المضيفين راكبا مصرّا الى مواصلة صومه وهو يوزّع المشروبات ضمن وجبة الغذاء الرئيسية أثناء الرحلة. في الوقت الذي كانت فيه الشاشات المقابلة للركاب، والمثبّتة في ظهور المقاعد، تعلن باستمرار عن الساعة في كل من نقطتي الانطلاق والوصول، موازاة مع عرض الأفلام والبرامج والأغاني؛ كان حلول الساعة الثامنة إلى ربع بتوقيت المغرب، إيذانا بحركة مفاجئة عمّت أرجاء الطائرة فجأة، حيث راح عدد من الركاب يطالبون المضيفين والمضيفات بالوجبات الغذائية التي اعتذروا عن تناولها قبل ذلك بساعات، ما أدخل بعضهم في نقاش حاد، حيث اعتبر البعض ذلك حقا مكفولا وواجبا على طاقم الطائرة أداؤه. “ما تفعله غير منطقي يا أخي، كيف تفطر والشمس ساطعة فوقنا، أنا لست فقيهة ولا أقدم الفتوى، لكن ما أعرفه هو أن الله يحب أن تؤتى رخصه وأن الدين يسر وليس عسر”، تقول إحدى المضيفات لراكب أصرّ على أن الصحيح هو إتمام الصوم والإفطار بتوقيت البلد الذي أقلع منه، “هل الدين أمر بالصوم حسب الساعة أم حسب طلوع الشمس وغروبها؟” تسأل المضيفة الراكب الصائم بنبرة استنكارية كان لها مفعول فوري، حيث راح الراكب يتأمل طبق الأكل الذي جلبته له معلنا أنه لن يأكل لأنه بدأ يشك. غير بعيد عن هذه المحادثة الحادة، كانت نسوة اخترن منذ بداية الرحلة الانزواء بعيدا عن الانظار في المقاعد الموجودة في آخر الطائرة والتي بقيت شاغرة، وما إن اقتربت عقارب الساعة من الثامنة إلا ربع بتوقيت المغرب، حتى دسسن أيديهن تحت مقاعدهن وأخرجن علبا من الحلويات وتمرا ملفوفا بعناية في ورق من الألمنيوم وقنينات من العصير، ولم تطلب هؤلاء النسوة من المضيفات سوى أكوابا من المياه شربنها رفقة بعض التمرات وهنّ تتمتمن بعبارات يبدو أنها دعاء الصائم حين إفطاره، ثم عدّلن من وضع أغطية رؤوسهن وأدّين الصلاة، ثم واصلن “الفطور” الرمضاني رغم أشعة الشمس الساخنة التي تطلّ عليهن من النوافذ. أما الراكب الذي دخل في نقاش مع إحدى المضيفات انتهى بشكه في صحة إفطاره بتوقيت المغرب، فأبقى صحن الطعام أمامه وأغمض عينيه واستسلم للنوم علّ الشمس تغرب. “المشكل في شهر رمضان يكمن بشكل جلّي في طول مدة الصيام. ففي المجتمع الاسلامي الأول، كانت فترة الصيام في البداية يوم واحد، اتّباعا للنموذج اليهودي السائد حينها”، يقول السوسيولوجي محمد الناجي في إحدى حلقات تغريداته الرمضانية الأخيرة على صفحات “أخبار اليوم”، مضيفا أن الصوم لا يكتسب قوّته إلا حين يكون إراديا، “وحين لا يمسّ بالالتزامات الاقتصادية والاجتماعية في إطار الجماعة. علنيا أن نتطرّق في يوم من الأيام لهذا الموضوع بشجاعة ووضوح، وإلا فإن الصوم سيتساقط متناثرا وفي ظل صمت منافق ومتواطئ”. الناجي تطرّق في تغريدته هذه الى موضوع الصوم وطريقة تطوّره من يوم واحد ليشمل شهر رمضان بكامله مع الابقاء على رخص الافطار في حالات المرض والسفر… وفي انتظار النقاش الذي دعا إلى فتحه، سألت “أخبار اليوم” الداعية محمد عبد الوهاب رفيقي، الذي ينشر بدوره في “أخبار اليوم” سلسلة مقالاته “مراجعات لا تراجعات”، عن رأي الدين في واقعة الافطار الرمضاني في الاجواء وتحت أشعة الشمس. “عليكم انتظار غروب الشمس ولا يمكن بأي حال من الأحوال الافطار قبل ذلك، وبما انكم في رحلة لن تغرب عنها الشمس تقريبا بالنظر الى اتجاه سيرها، فإن عليكم انتظار وصول الطائرة وحلول موعد غروب الشمس وإن زدتم بعض السويعات، هذا علما أنكم غير ملزمين بالصيام أصلا، لكم رخصة الافطار إن شق عليكم”. نزيد في تأكيد السؤال عمّ إن كان هناك أي موجب للافطار بتوقيت البلد الاصل، فيجيب ضاحكا: “لا لا ما يمكنش أبدا… إلا في حالة الناس المقيمين في المناطق التي لا تغرب فيها الشمس نهائيا، واجتهادا مني أضيف حتى المناطق التي لا يتعدى فيها الليل ساعتين أو ثلاث”. رحلة المفطرين تحت أشعة الشمس وصلت إلى مطار نيويورك وموعد الغروب مازال يبعد بأكثر من ساعتين، والراكب الذي نجحت المضيفة في دفعه نحو الشك في صحة إفطاره بتوقيت المغرب، لم يقو على احتمال مناورات ربان الطائرة أثناء هبوطها، فراح يُمسك بطنه بإحدى يديه ويغلق فمه بالأخرى، لكنّه انتهى بالاستسلام وبسرعة أدخل فمه في كيس بلاستيكي وتقيّأ ما أكله في سحور الليلة الماضية. “الله يقوّيك ويتقبّل منك”، قالت له المضيفة بعد التوقّف النهائي للطائرة وشروع الركاب في النزول منها، “لا لا لقد تقيٌأت وعلي قضاء هذا اليوم”، ردّ الراكب الذي لم يفطر لا بتوقيت المغرب ولا بتوقيت أمريكا.