كانت أم شرطي القنيطرة زينب تجلس بأحد أركان بهو منزل أخيها المتواضع بعد أن ضاقت عليها الأرض بما رحبت، مرتدية صدرية صوفية، ومثل كل النساء البدويات المغربيات مازالت تلتحف وزرة المطبخ "الدزارة"، تذرف دمعا ساخنا ينهال على خديها فيبدو وجهها الموميائي بعينين جاحظتين حمراوين من فرط البكاء، كانت تتحدث إلينا وقلبها يعتصر ألما على فراق معيلها الوحيد .. "العمية"، هذا هو اللقب الذي كانت تناديني به زوجة ابني وعائلتها، تقول زينب التكني والدة الشرطي المتورط في قتل زوجته ووالديها خلال حديث خصت به" الأيام24"، تأخذ نفسا عميقا .. وتسترجع أحداث يوم الجريمة وكيف أن خلافا بسيطا نشب بين ابنها" محمد بوعياد" وزوجته "رشيدة تقوى" بسبب شراء السمك تطور إلى جريمة قتل جعلت الحياة قطعة من الألم والعذاب الذي تكابده زينب على فراق الإبن.
تقول الأم و هي تمسح عينيها بأطراف منديلها الأبيض الذي تغطي به رأسها: "أثناء مغادرتي للمنزل في ذلك اليوم الأسود رفقة ابني كانت آخر كلمة سمعتها من زوجته "سير تق.. أنت وأمك الشماتة"، ومع ذلك تجاهلت شتمها تفاديا للاصطدام ونزلت مع ابني إلى المرأب الذي كان يخبئ لنا الفاجعة.
"عفاك أمي غير صبري معايا"، بالكاد تخرج كلمات متقطعة، تتوقف عن الكلام، ثم تتذكر طلب ابنها بمرارة، كبرياؤها وكرامتها كانا موضوع مساومة وابتزاز يومي، لكنها كانت تحجب كل ذلك عن ابنها خوفا من هزات قد تعصف بعشه الزوجي: "رغم أن زوجته فرضت علي غسل ثيابي بيدي، واقتسام الغرفة التي كانت مخصصة لي مع حفيدي، وكانت تنبهني من إحداث أي صوت أثناء قيامي لأداء صلاة الفجر وتهينني.. لكنني كنت أشفق عليه وأكتم في نفسي ولا أخبره حتى لا يتوتر الوضع أكثر"، تتلعثم وتستجمع قواها وتسترسل قائلة، وهي الشاهدة الوحيدة على جريمة القتل التي تورط فيها ابنها محمد بوعياد: "رغم أننا غادرنا البيت هربا من تأجيج الوضع لكن مكر القدر كان أقوى، فبعد نزولنا إلى مرأب العمارة وأثناء استعدادنا لمغادرته على متن السيارة فوجئنا ب "الغالية كركو"، أم الزوجة، وهي تقف أمام السيارة لتمنعنا من المغادرة".
"هبط عندي اشماتا وأنت سباب هد المشاكل العمية ...الله ينعل جد طواسلكم كاملين"، هذه العبارة التي قالها "محمد تقوى" صهر ابنها عند وصوله إلى المرأب مباشرة بعد زوجته"الغالية" دفعت ابنها "محمد بوعياد" إلى النزول من سيارته مترجلا عند صهره الذي لم يتردد في لكمه على وجهه، وأنا أرى بأم عيني كيف أفقدته لكمة صهره توازنه وأسقطته أرضا، تضيف زينب.
أحست زينب فجأة أن العالم يسقط فوق رأسها، وأنها ترغب في أن تتحدى لغة الموت المطبقة على المكان. تسترجع فصول الجريمة التي كانت تشاهدها من داخل السيارة، وكيف أن ابنها دخل في حالة هستيرية بعد أن استجمع قواه ولم تسمع بعد ذلك سوى طلقات نارية أصابت والد زوجته، و تقول الأم إنها نزلت من السيارة و بدأت تصرخ بأعلى صوتها من هول الصدمة وتعاتب ابنها على ما فعل.
يخيم صمت قاتل من جديد ويصبح مع مرور الوقت ثقيلا ومرهقا، صمت ثقيل مدو، فتبدو أنفاس زينب ثقيلة، وتواصل التذكر: "كانت أم الزوجة قد انهارت وهي تصرخ "تزوج امك الراجل ...غاديا ندخلك الحبس اشماتا"، هاته العبارة التي جعلت هستيرية ابني تتضاعف وغضبه يتأجج أكثر لتتلقى صهرته بدورها طلقات النار التي كانت بداخله"، وتضيف الأم أنها في خضم الصدمة لم تر كيف تلقت الزوجة رشيدة طلقات النار.
تسترجع زينب ذكرياتها مع ابنها الذي كان ظلها في حلها وترحالها ويحبها لدرجة الجنون، ولم يكن ليقبل بأن تهان أمه أمام عينيه.. تذكرت كيف كان يحن عليها ويقبل يديها برفق كلما عاد في المساء بعد يوم متعب.. حكت لنا فخرها يوم التحق ابنها "محمد بوعياد" بسلك الشرطة، وفرحتها يوم أخبرها بقرار الزواج من "رشيدة"، ولم تتردد حينها في تفويت قطعة أرضية له، كانت هي كل ما تمتلكه، من أجل مساعدته في بناء عش الزوجية الذي انهار بجريمة بشعة.
تصمت الأم قليلا و تسترسل ودموعها لا تفارق جفونها: "في أحد أيام شهر رمضان المبارك كنا نستعد لتناول وجبة الإفطار كأي عائلة مغربية "الخير تبارك الله موجود والناس فرحانة ونوضاتها معاه و حرمات علينا الفطور وخرج فطر مع المتشردين فسيدي سليمان، علما أنني لم أقض معهم شهر رمضان لسنتين متتاليتين بسبب طبعها الحاد، لكنها بدأت تهينني وتهدد أنها ستهدم الشقة على رأسه عند رجوعه وكل الجيران يسمعون صراخها".
وحتى عندما كان يمازحها أمامي كانت تثور في وجهه :"اجمع راسك متهدرش معايا هكذا قدام أمك"، كنت أريد الابتعاد لكن ابني لم يكن يقبل وليتني... أخرجتها كلمات متقطعة لكنها حادة وجارحة تلعلع كصوت الرصاص الذي مازال يهز طبلة أذنيها.