تذكير وتقرير: ليست السيرة النبوية كما يدعي البعض مجرد وقائع تاريخية ولى زمانها، بل هي معين تستمد منه الأجيال المسلمة زاد مسيرها وعوامل بقائها أدوات التدافع وتقنياته، وما به تقارع من أجل أن تؤدي رسالتها التاريخية "الشهادة على الناس". يقول جل وعلا: "وكذلكم جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا". إن "السيرة النبوية العطرة هي نموذج القومة ووصفها ومدرستها. عليك في عصرك ومَصرك وظروفك وحظك من الله وقوة من معك من حزب الله، قوة الإيمان قبل قوة العدد، أن تترجمها واقعا حيا تتعرض به لأمر الله...". ووعيا بما يمكن أن تضطلع به دراسة السيرة النبوية من دور لانبعاث المسلمين فقد حرَصَ بل نجح أعداء الإسلام بواسطة خريجي مطاحن التغريب وبشكل ممنهج لإقصاء التاريخ الإسلامي لاسيما العهدين النبوي والراشدي من البرامج التعليمية، واكتُفي منه بإشارات توظف توظيفا لتبرير واقع المسلمين أو تغليطا للأجيال وتنفيرها من دينها وقيمها. موافقة لطيفة: شاءت العناية الإلهية أن ترتب حدثين مفصليين في تاريخ الإسلام يوم 17 رمضان، ففي ذلك اليوم الأغر من السنة 2 للهجرة مكّن الحق سبحانه لجنده وهم يومها قلة قليلة فيسر لهم ذات الشوكة وساق لهم نصرا تاريخيا على الغريم التقليدي: قريش. وبعد ست سنوات، وفي ذات اليوم من نفس الشهر مكّن الحق سبحانه لرسوله وللمسلمين دخول مكة فاتحين تحقيقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل سنتين. يقول جل وعلا في سورة الفتح: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومُقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا"؛ فسبحان الله مُيَسّر الأسبابَ ومُرَتِّبِ الأقدارَ!... موافقة تاريخية طريفة تحمل أكثر من دلالة، ومنها أن رمضان شهرُ الجهاد والتعبئة المتجددة. غزوتان مفصليتان في ست سنوات تختزل مسيرة بناء دولة الإسلام وتؤرخ لحدثي الميلاد والتمكين لدين الله وعباده الصالحين. سياق فتح مكة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حوالي ألف وأربعمائة رجل لأداء العمرة في السنة 6 للهجرة، وبحثا عن مخرج من حرج منع المسلمين من العمرة قبلت قريش توقيع معاهدة صلح الحديبية التي أعلنت الاعتراف بقوة جديدة ناشئة وميلاد محورين رئيسيين في المنطقة. يقول البند الثالث من المعاهدة: "من أحب أن يدخل في عقد محمد (نقول صلى الله عليه وسلم) وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءا من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق." بمقتضى هذا البند دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت قبيلة بني بكر في عهد قريش، وكان بين القبيلتين عداوة وثأر كبيرين فأمنت كل منهما نفسها بهذا التحالف، لكن بني بكر استقوت على خزاعة بقريش ومكانتها بين العرب فأصابت منها ثأرا قديما، وقتلت منهم رجالا وتورطت قريش في العدوان بسلاحها ومقاتليها، فسارعت خزاعة تستنجد برسول الله صلى الله عليه وسلم وتطالب بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك. هكذا تكون قريش قد جنت على نفسها وهي تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يتأخر في نصرة خزاعة. ودون جدوى، سارع أبو سفيان لإنقاذ الموقف في محاولة لاستغفال المسلمين واقتراح تجديد معاهدة الصلح، لكنه عاد إلى مكة موقنا بمواجهة عسكرية تدل كل المؤشرات أن ميزان القوة فيها بات لصالح المسلمين. مفارقات: إن المتأمل لمسار الدعوة الإسلامية بدءاً من البعثة النبوية وانتهاءً بفتح مكة يتملكه الاندهاش لمسار المشروع الإسلامي الذي تبلور واستوى كيانا له هيبته ووزنه في حوالي عِقدين من الزمن. من كان يتصور مجرد تصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اضطر أن يدخل مكة بعد رحلة الطائف في جوار، وأن الذي هاجر إلى يترب قبل ثماني سنوات متخفيا تحت جنح الظلام سيعود ليدخلها فاتحا. من كان يتصور مجرد تصور أن بلالا الحبشي الذي مُدد في هجيرة مكة مكبلا يرزح تحت الصخر معلنا صموده وتمسكه بدينه وهو يردد: أحَد. أحَد، أنه سيكون ضمن الفاتحين وسيصدع بالأذان مجلجلا بصوته الجهوري جنبات المسجد الحرام. من كان يتصور مجرد تصور أن صناديد قريش وزعماءها الذين ساموا المسلمين المستضعفين سوء العذاب، وتفننوا في التنكيل بهم وحاصروهم سيقفون مناشدين ملتمسين من عدو الأمس العفو والصفح وقبول الدعوة. من كان يتصور مجرد تصور أن المسلمين المستضعفين المعدودين الذين ذاقوا ألوان العذاب والتضييق وطردوا وهُجّروا، أنه ستتقوى شوكتهم وتتكاثر أعدادهم فيُغرقون وديان مكة بجيش عرمرم لا قبل لقريش به. إنه قدر الله تعالى وتدبيره وعنايته لجنده بالنصر والتمكين في الأرض، في كل زمان ومكان، متى احترموا السنن التدافعية على قاعدة تحقيق العبودية لله، وكانوا قلبا وقالبا، حالا وأقوالا وسلوكا عباداً لله. مرتكزات التتويج ودعائمه: اكتشافا للأدوات الكفيلة بانبعاث إسلامي جديد واستشرافا لوعد إلهي وبشارة نبوية أن بعد ظلمات العض والجبر ستبزغ شمس العدل والكرامة تحرر المسلمين من نير الغثائية والذيلية وتعيد بناء كيان الأمة المؤهلة لحمل رسالة الحق والإيمان والتكريم للبشرية، نحدد وبتركيز المرتكزات والدعائم الكبرى لهذا المشروع الذي حرر الانسان وكرمه، وأنجز أعظم تغيير، وأعمق تغيير، وأشمل تغيير، وبأقل كلفة مادية وبشرية، وفي زمن سيظل قياسيا في سائر الأزمنة والعصور. لكل مشروع أسس، والمشروع الإسلامي انبنى على مرتكزات منها: 1. استواء المشروع ووضوحه: ضمنت النبوة باعتبارها مؤطَّرة بالوحي والتوجيه الإلهي وجودَ مشروع متكامل ومستوٍ استجاب لمتطلبات زمان البعثة، وأجاب عن سؤالها الجوهري: كرامة الانسان. ولأن الإسلام آخرُ رسالة سماوية للانسان، تكفل الحق سبحانه بحفظها من التحريف والتزوير، وهيأها لتكون صالحة لكل زمان ومكان. مشروع تأسس على الوضوح وفق عَقْدِ "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم". مقتضيات كانت بالنسبة للصحابة غاية في الوضوح، فهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بيعة العقبة الثانية :اشترط لربك ولنفسك ما شئت!؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة". قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" الآية. 2. نموذجية القيادة: وهذه هي الأخرى من الأولى، فقائد المشروع رسول نبي مسدد معصوم، لا يتصرف بهواه، بل بوحي وتوجيه إلهيين عِصمةً له من الزلل؛ بل إن العناية الإلهية صنعته على عينها منذ ولادته وفي مختلف أطواره العمرية، فنشأ مبرأً طاهرا من أي نقص أو شائنة، وجمّله ربّه بالصدق والأمانة وجمع له كل الشمائل والمحامد، وأثنى عليه في كتابه بالخُلق العظيم. شمائل ومحامد أسرت بسموها ونبلها العدو قبل الصديق، فكان صلى الله عليه وسلم محبا لأصحابه رحيما رؤوفا بهم حريصا عليهم: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عندتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" ، يُشركهم في تفاصيل المشروع ويحفزهم على الاقتراح والمبادرة ويحرص على مشاورتهم في صغير الأمور وكبيرها، وما أكثر ما أثمرت اقتراحاتهم حلولا ناجعة في مراحل حاسمة: غزوتا بدر والخندق نموذجين. فلا عجب أن يتعلق به الأصحاب ويُفدوه بالنفس والمال والولد. وعلى الرغم من وجود هذه القيادة المُسددة والمعصومة، فإن حركية الدعوة انضبطت لقوانين التدافع وسنن الله الكونية على قاعدتي: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" و"...يألمون كما تألمون وترجُون من الله ما لا يرجُون وكان الله عليما حكيما". 3. حملة المشروع: لقد هيأ الحق سبحانه لدعوته جيلا فريدا امتنّ به على رسوله الكريم تأييدا وتأليفا: "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ". حملة مشروع وبُناتُه تبوأت فيه المرأة مكان الصدارة منذ لحظاته الأولى في شخص أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها تبنّوه وتقمصوه قبل تنزيله واقعا ملموسا فجسدوه نموذجا حيا في شتى مجالات الحياة. 4. إعداد وتربية حملة المشروع: وعيا بطبيعة المهام الجسام وحجم العقبات التي يُطلب من حاملي المشروع اقتحامها، رسخت التربية النبوية بالحال والسلوك والموقف قبل المقال في القلوب أن الحافظ الله، والناصر الله، وجردتهم من أي سند بشري، بل شاءت إرادته سبحانه أن يكون سوادُهم الأعظمُ من فقراء المجتمع ومستضعفيه، كما جردت راعيَ المشروع نفسَه، رسولَ الله من أية حماية أو سند، فقُبض العمُّ الحامي والزوج الحانية خديجة رضي الله عنها في نفس العام، حتى لا يُخدش نصر الله لعباده بدعم أي طرف آخر، وتهيأ المسلمون الأوائل بالمثال الحي لتبعات هذا الانخراط، فكان حظه صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق من البلاء والتضييق وافرا، وكذلك كان جيل الصحابة تزيدهم الشدائد ثباتا ورسوخا على الموقف. 5. اكتساب المهارات: ومع الإعداد على التضحية، كان التدريب والتعليم لاكتساب فنون التواصل والإقناع تبليغا للدعوة وتوسيعا لقاعدة المشروع، فلم يسجل التاريخ أن المسلمين ظلوا جامدين يتلقون الضربات المتتاليات محتسبين صابرين على ما يجدون من عنت وتضييق، بل وظفوا إمكانيات عصرهم فتفاوضوا وحاوروا وكسروا طوق الحصار طالبين جوار ملك عادل، فيما يسمى بلغة العصر: اللجوء السياسي. 6. التأليف والتآخي: وفي يترب/المدينةالمنورة، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وتعهّد صلى الله عليه وسلم هذا المولود، ووفر له شروط النبات الحسن، فاندمج الوافدون والمحتضنون وصاروا أشبه بالجسد الواحد توادّاً وتراحما وتعاطفا. 7. وضع الدستور/ميثاق المدينة: ومن التأليف، حرصُه صلى الله عليه وسلم على وضع الميثاق/الدستور الذي ينظم العلاقات بين المسلمين واليهود ويحدد لكل مكون حقوقه وواجباته، ليتوفر مناخ مواتٍ للبناء، ففتحت أوراش البناء وحوربت الأمية والبطالة وتُدرّب على فنون القتال ووسائل الدفاع عن النفس والديار، وتُعُلمت اللغات العبرية نموذجا فتأهَّل المسلمون للتناظر والجدال بالتي هي أحسن مع أحبار اليهود بحثا عن أسباب التقارب والتعايش إن لم يتيسر الاقتناع واعتناق الإسلام باعتباره الدين الخاتم. 8. التعبئة الدائمة المتجددة: التربية في عمقها تعبئة وتحفيز وبالتعبير القرآني التحريض الذي جاء أمرا إلهيا صريحا إلى نبيه الكريم: "يا أيها النبي حَرِّضِ المؤمنين...". التعبئة في المجال التربوي دعوة لتجديد الإيمان بما هو ولاء وفاءً بعقد "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.."، وصقل للقلب بدوام الذكر وكل الطاعات اكتسابا أو تقوية لشُعب الإيمان. والتعبئة في المجال العام استنهاض للهمم وبذل الوسع خدمة للمشروع، كل في مجاله الذي يرابط فيه. وفي الحديث النبوي: "أنت على ثغر من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قِبلك". لقد كان المسلمون واعون تمام الوعي أن كيانهم مستهدف، فظلوا متعبئين يقظين لكل طارئ، حتى إذا نادى منادي الجهاد والدفاع عن المشروع هب جند الله ملبين الدعوة يتسابقون للشهادة في سبيل الله، لا يزيدهم تربص الأعداء بهم إلا إصرارا، فلم تنهكهم المواجهات الكثيرة والمتقاربة، ولم تستنزف حماستهم، بل قوّت ثباتهم وانخراطهم في المشروع، وميدانيا أكسبتهم خبرة قتالية جعلتهم قوة عسكرية مهابة إقليميا توّجَها فتح مكة الغراء. عود على بدء: لقد نجح المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقديم نموذج حضاري متميز خلقا وعلما واقتصادا وسياسة، فقدموا للبشرية نموذجا حيا لمشروع كفيل بتنظيم حياة المجتمع وتأهيله ليكون وعاء لكرامة الانسان وتحريره من كل أشكال الاستعباد لهوى أو شهوات أو نظام بشري مستبد. غزوة فتح مكة حدث مفصلي بكل المعايير في تاريخ الإسلام، ذلك أنها أسست لمرحلة الظهور التام للدعوة، حيث بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا. حدث هذه قيمته، كانت بذرته الأولى دعوة رجل أعزل إلا من تأييد ربه، ثم آحاد من الناس أغلبهم فقراء وعبيد، تخطفتهم مخططات الكيد القرشي، نصر الله بهم دعوته وقهر بهم أعداء الدين والمتربصين بالحق، وساق له النصر الذي وعد، ومكّن لهم في الأرض فأقاموا ميزان العدل وحملوا لواء الحرية والكرامة للانسانية جمعاء. بذرة باسم الله زرعت ونمت واستوت شجرة وارفة في عِقدين من الزمن ونيّف من البناء والتعبئة الدائمة: انخراط جماعي، عمل دؤوب، اقتراح ومبادرة، احتضان ورعاية، نُصح وتوجيه، إقبال دائم متجدد على المولى الكريم: رهبنة ليل وفروسية نهار، تلكم هي عناوين مسار دعوة كان لها موعد مع التاريخ يوم 17 رمضان من السنة 8 للهجرة، يشهد لها بالتمكين والتتويج. فما أحوج العاملين اليوم في حقل الحركة الإسلامية لاستنباط الدروس والعبر من السيرة النبوية بناءً لمشروع ينقذ البشرية من التيه! وما أشد حاجة عموم المسلمين لقراءة سيرة نبيهم ليعرفوا حقيقة انتمائهم للإسلام، ويدركوا كما أدرك الصحابة أن الإسلام بيع للنفس والمال والوقت والصحة والراحة لله، فيهُبُّون لتجديد الإيمان في القلوب، ويتسابقون للتنافس في بناء صرح أمَّة يجب أن تكون تحقيقا لتقرير القرآن الكريم وإخباره خيرَ أمَّة أخرجت للناس إيمانا بالله وتآمرا بالمعروف وتناهيا عن المنكر، فتعِز وتسود وتتأهل لتحقيق عمران أخوي تَسْعدُ به البشرية جمعاء وتستريح!... والحمد لله رب العالمين.