قد يدفعنا الظلم والتسلط إلى التغني بالكذب والحيف، وقد نستسلم لواقع حياتنا. لأننا لا نملك سوى الطواعية والخضوع. لكنه قلما نجد الأحرار و ذوي النفوس الغالية يتقبلون مثل هذا الوضع. بل هم يصنعون من ضعفهم قوة يهزمون بها أعداءهم. مهما أوتوا من قوة. لقد عاش التونسيون ردحا من الزمان القهر والحرمان. وعانوا التعسفات بمختلف أشكالها. كباقي إخوانهم في ربوع البلدان العربية. إلا أنهم كانو مؤمنين بأنه مهما استمرت العبودية و مهما دامت القيود،فلا بد من يوم تشرق فيه شمس مخالفة لتلك التي ألفوها واعتدوها، ولابد من لحظة زمنية تستيقظ فيها العقول لتقف ضد الديكتاتورية والتسلط. لم يكن البوعزيزي عالم ديمقراطية أو فيلسوف سياسة. ولكنه ابن شعب ضاق درعا من التسلط و القهر ليقول كلمتين. كلمة الموت وكلمة التغيير.. و رحم الله نزار يوم قال إن الثورة تخرج من رحم الأحزان. نعم تكلم البوعزيزي. ليقول كلمته وليرحل عن الدنيا، مؤسسا لحياة جديدة، حياة منبعها الحرية، ودرب يسير عليه كل المقموعين . هكذا كان رحيلك سيدي بزوغ فجر جديد. ونهاية عهد طالما بحثنا عن نهايته ما وجدناه سوى في الخيال، بشمسك الجديدة انتهى زمن الظلام. وانتهى عمر الخونة والمرتزقة. بموتك بدأت الحياة من جديد وانتهى عهد الشياطين ... ما أجمل ما حدث.. ما أجمل الذي لم يحدث ... من يناقش الطغاة في عدلهم أو ظلمهم ... لولاك... من كسر القيود التي تحدث عنها الشابي .. لولاك ... طريقك سيدي أدى إلى الصمود. وانخراطك غير التاريخ. في موتك هجوم شرس على القيود القديمة والحديثة. وتعبير عن الظلم والقمع ضد من يحبون الليل ويتحايلون على نهارهم حتى يرحل. في موتك الفريد تعاطف مع الضعفاء والمهزومين، ورفض لأشكال الموت الحقيقي ... لك من الرحمة ما يدخلك الجنان .. فأنت الذي أفضت الكأس وحركت المشاعر. لم يكن همك لا مظاهر ولا تطاول مع أقرانك الذين خدروهم ساعة الفجر. وسلبوهم فحولتهم .. طبعا مشاربك نابعة من جدك أبي القاسم الشابي. الذي ودع الدنيا هو الآخر مبكرا، ليترك أحفاده يقودون المسيرة ... مهما خلدت فستظل في الأذهان مجددا لطبول الثورة،و محركا لمشاعر الضعفاء والمكبولين،لأنك قلت كلمتك نيابة عن ملايين المحرومين. ضد من استباحوا شعوبهم واغتصبوا أحلامهم. بل من داسوا كرامتهم. ليس لنا سوى حرف ضعيف هو الآخر للتضامن معك. فلك من الرحمة ما يضيء سفرك وهنيئا لك. لأنك أخرجت ثورة من رحم الأحزان وأعطيت درسا قلما نجد له أستاذا مهما شيدنا من جامعات ومهما صنعنا من مفكرين . هكذا نرى في موتك سيدي مجاري الدماء النابضة بأغاني الفرح وصخب الزجاجات وفردوس اللفائف وعذوبة الحياة. دمت حيا أيها الحقيقي في الزمن الرديء. فقلوب الجميع معك قلوب أحبائك الحيرى مأوى لحروف جسدك الحميم. كم كنت حيا .. كم كنت إنسانا متجددا .. متعددا ومشاكسا في زمن الزيف. كم كنت سخيا بجسدك في مدفئة الانفجار. كم كنت مجنونا في وجه المجانين .. كم و كم... رحلت إذن عنا لكنك تركت اسمك خالدا لأجيال وأجيال. وأنت نجم في سماء السياسة العاهرة. وصوتك يترقرق في نفوسنا وأنفاسنا. يمنحنا ترياق النسيان في صدق التذكر ورعشة الخوف المحرر من قبضة أكلة التاريخ. ليس بوسعنا أن ننسى هيجانك، بل سنهيج معك ونحكي عنك .. فيا صديق الضعفاء والصامتين، أنت مع أهلك الأوائل فرحات حشاد، والمهدي بن بركة. كم ستبقى بارزا في أذهاننا، لك الرحمة، ولك العزة. ودمت حيا في قلوبنا، مادام الظلم ينخر أجسادنا...