سئمت من إعداد مناقبك وأنت تسير نحو مثواك الأخير، كنت هادئا جميلا وكريما ،وقليل ممن يجمع بين الجمال وحسن الخلق، كنت باسطا صفحات يديك لكل عابر سبيل :حتى الغجر دخلوا شواطئ بحورك وسرقوا من شمسك ما يكفيهم لسنوات المنفى والإغتراب الطويل...حتى "الإسكيمو" تزودوا بما يكفيهم من الرمل لكيِّ بردهم الشمالي...كنت خير ملجإٍ للسود والصفر والزرق والشقر، أتوك زمرا لما ضاقت جغرافيتهم بما رحبت، كنت أكثرهم إيمانا أن يوسف لم تفترسه ذئاب كنعان، وأن نرسيس لم يكن جميلا كما يعتقد...وأن أفروديت ليست إلا خادمة بيوت في زمن الآلهة الذكور...وأنها لم تكن جميلة...وكنت أول من آمن أننا لسنا إلا حفدة سيزيف، أو معشر المعذبين في الأرض...ونحن بعدد الجراد الكاسح وبسرب اليمام المهاجر...إننا حقا كثر جدا. كثيرة هي مناقبك وإني سئمت تعدادها، فامهلني فرصة آخر صلاة على نعشك وأنت تسير مثقل الخطوات إلى منتهاك الأخير...دعني أرتل هذه الزفرة الموغلة في أناي عساها بكاءً عساها آخر الوصايا... أيها البارد فوق الحدباء: لا أشك أنك تسمعني وتسمع وقع آثار خطوات هؤلاء الذين يسيرون خلفك الآن..صدقني إنهم يجيدون طقوس التشييع، يجيدون طأطأة رؤوسهم بانحناء النخيل...وفي خشوع ناسك متعبد، منهم من يردد لازمة الرحيل من ورائك...ومنهم من يلتزم الحياد مخافة أن يوقظ روحك الطاهرة وهي مثخنة بين اللاهنا وضبابية الهناك..أو مخافة قرار فصل تعسفي من العمل. أيها الداهب إلى العدم: جنازتك غريبة حقا، لا نساء يولولن ولا هن يضربن على وجوههن،لا أثر لحزنهن ولا لندوب خذوذهن، فقط أطفال يلعبون بتراب قبرك وهم يصرخون فرحا بالحياة... يؤلمني مسيرك نحو اللاشيء، بعدما كنت كل الشيء، تمشي كأنك والحزن سيان بظل واحد وفي صمت واحد وعلى سبب واحد...يعذبني أن أراك مستلقيا كطاغوت أسقطته الرياح، أو كجبل ينام فوق صدر حسناء خجولة... لا أملك غير الدمع المدرار، وهذه الصلوات الكثيرة، لا أملك غير هذه الزفرات وهذه الثقوب الثقيلة...في كل مسامي ينبت الحنظل والصبار ومساميرا من ندوب الجراح والملح صارت تردد نشيد الوداع الأخير...لا مفر...لا مفر... ستنزل هذا الأديم وستصير ذبالا أو نباتا أو عشبا لقادم الأمطار...أو سيُنبت جسدك نرجسا حزينا... كم كنتَ تخشى الزوال...كم كنت تحب الحياة... أيها المسافر إلى النهايات: صرت الآن "أنت" الحقيقي،سقطت "ال" تعريفك، بلا قناع ولا تاج ولا حاشية ولا عرش...آن أوانك أن تصير ما تريد...لعلك ستحيا هناك نبضا وشعرا...سنذكرك في الغياب...ليطمئن قلبك على شعبك... هذه باقة وردي وهاته الكلمات خاتم حب وصدق على مرمر قبرك...فسلام عليك يوم ولدت ويوم مت ويوم ستبعث وطنا بديعا...