قصة قصيرة ... دم في عروقي [b] من بعيد هبت نسمات الطوفان معلنة حلول فجر جديد... هكذا ردد ياسر عباراته،و محياه يشرق أملا،و زوجته سمية تضحك و تبكي،و هو يحنو عليها و يسأل: -ماذا بك عزيزتي ؟ضحك و بكاء؟! فأجابت بنبرة حزن: بربك هل يهون على الرضيع الفطام؟ فرد ياسر بحزم المتيقن من صحة الجواب:طبعا ليس ذلك عليه بهين. فتنهدت: كذلك لا يهون على الرؤساء و السلاطين العصيان...لن يتخلوا عن كراسيهم ببرودة دم، سيقطعون ألسنة الشرفاء، و يقيمون على الأرض مقبرة للشهداء... لم يستسغ ياسر نبرة زوجته، فكأنه لم يجد للضحك مكانا بين ما بكته من مخاوف...و قبل أن يسأل باستغراب، أثار مسمعه ضحك سمية، و قبل أن يلتفت قالت: لكن كما علمتني ما الموت إلا معبر للحياة، نموت من أجل حياة كريمة...لأجيال قادمة... فقاطعها ياسر: ما خاب ظني فيك يا أم صالح، و أنت التي طالما رددت قول الشاعر: إذا لم يكن من الموت بد** فمن العار أن تموت جبانا. أنت حقا زوجة و أم مثالية... تبادلا نظرات الحب الأزلي، و اقتربا من بعضهما، إلا أن أصوات المتظاهرين المنبعث من الخارج قد حال بينهما، فأسرعا إلى إحدى النوافذ، فرمقت عيناهما صالحا يتقدم الطابور و بيده مكبر الصوت،و هو يردد و معه يردد المتظاهرون: إذا الشعب يوما أراد الحياة... فغمرت الأبوين فرحة لا تضاهيها فرحة، و لم يستطيعا مقاومة دموع انسابت على خديهما، و لم يقاوما انجذاب قدميهما نحو السلالم، و اللحاق بحشود الثوار الذين ألف بين قلوبهم حلم واحد، و هو أن يستيقظوا على عهد جديد يحترم فيه الإنسان و يكرم... عادت الأسرة الصغيرة الثائرة إلى البيت،و الأصوات مبحوحة ،و الجوارح متعبة،فكان على الجميع أن يلج المطبخ إعدادا لأكلة تكون وقودا لاحتجاج جديد... التفوا حول المائدة، و قد سلب التلفاز الأصوات، و هاجرت الأذهان إلى حيث عبيد السلطة، و بأمر من الطغاة ينكلون بالصغار و الكبار... إلا أن خبرا عاجلا كسر سطوة الموت...فردد الجميع: الله أكبر، ها هو الجلاد الطاغية قد تدمر... و أضاف الابن ذو الربيع العشرين من عمره: قريبا سيستجيب القدر، و سنبعث من الأحلام حقيقة تسر كل الثوار، و تلعن سحنة الكلاب المتمسحة بأقدام كل طاغية جبار... و بينما الأسرة تبعث من أحلامها عطرا يفوح في أرجاء البيت ،أذاع مذيع أن المتظاهرين بجل مدننا لا تقودهم إلى التظاهر إلا توجهاتهم المذهبية ...و اتهم الحشود بانقيادها بجهالة وراء ثلة من الوصوليين... و ما كادت سموم المذيع تتوقف حتى صرخ ياسر: كلاب...يشككون في نوايا الثوار... ؟!يا للمصيبة ها هي سياسة فرق تسد تحلق في سمائنا من جديد... أما صالح فقد انتعل حذاءه، و خرج غاضبا و هو يلعن أعداء الثورة و يردد بصوت يغلي غليان البركان: الثورة في خطر... الثورة في خطر... و لم تجد سمية إلا الدعاء لابنها بالسلامة من كيد الأشرار، ثم قامت من مكانها بمشقة و كأنها بلغت من العمر عتيا ،و إلى جانبها ياسر يسندها و يهدئ من روعها ،و يعدها بالنصر و لو بعد حين... دخلا غرفة النوم و بعد ساعتين توجها إلى ساحة النصر استعدادا لاحتجاج جديد ... انطلقت المسيرة إلا أن أمرا غريبا أثار انتباههما ،لم يعهداه من قبل،فقد انقسم المتظاهرون إلى زرافات ، و انفردت كل كوكبة بترديد شعارات تخالف ما تردده الكوكبات الأخرى... إنها الفوضى، إنه الشتات، إنه الموت المفاجئ ينشب مخالبه في جسد الثورة. و عبثا يصرخ ياسر و صالح و كريم و عائشة و فاطنة...يصرخون وسط الملإ :وحدوا الشعارات ،توحدوا، ماذا حل بكم ؟ ...إن الذئب يأكل من الغنم القاصية . عبثا يصرخ هؤلاء ،فكأنهم يناشدون فريقا من الصم العميان... صرخوا و صرخوا، إلا أن الفوضى تفاقمت ،و الخلافات اشتدت، فانفضت المسيرة و ارتدت... فبكى ياسر،و ناحت سمية،و شرد ذهن صالح ...و عاد كل ثائر إلى عرينه خائب الظن...مكسور الجناحين... إلا أن بصيصا من الأمل قد لاح في الأفق،بعد أن لمحت أعين الأسرة الصغيرة أطفال الحي، و هم يرددون بما يملكون من قوة ،و في شطحات صوفية : حقوقي ،حقوقي ،دم في عروقي، و لن أنساها و لو أعدموني... فتبادل اليائسون نظرات الأمل،وصعدوا السلالم وقد حفتهم إشراقة و ابتسامة تعد بعهد جديد،عماده أجيال تسري في عروقها دماء الحرية و الكرامة...[ /B]