لا بد من التأكيد مسبقا على أن حديثنا اليوم عن المسرح في الثقافة الحسانية هو حديث عن فعل لا زال في طور التشكل.. إننا أمام مسرح يبحث عن مستقر له ضمن مكونات الثقافة الحسانية ويسعى إلى اختراق منظومة ثقافية يتسيدها الشعر والغناء والحكاية. وبالتالي فهو في بحثه هذا يشكل حملا على العاتق يتعين على المهتمين به رعايته انطلاقا من رؤية تمتح من المسرح ذاته على اعتبار أن المسرح هو المسرح في كل مكان، وأيضا من واقع المجتمع الصحراوي في امتداداته التاريخية والمجالية، وما أفرزه هذا الواقع من طقوس متفردة وأشكال تعبيرية متنوعة. جمعية أدوار والبحث عن أفق للاحتراف تعود البدايات الأولى للممارسة المسرحية الجادة بكلميم إلى منتصف الثمانينات من القرن الماضي بعد تأسيس جمعية الأطلس الصغير للثقافة والفن والتربية، على يد الكاتب والناقد المسرحي الحسين الشعبي بمعية عدد من نشطاء المسرح المدرسي بالمدينة والإقليم.. منهم عبد اللطيف الصافي، عبد الفتاح شبي، عزيز منتوك، عزيز نافع، وآخرون.. وتميزت هذه الفترة سياسيا واجتماعيا بالتعقيد، ومسرحيا بتألق مسرح الهواة الذي شكل الحاضن لهذه التجربة إن على المستوى التنظيمي أو الإبداعي. غير أن السياق الذي برزت فيه جمعية أدوار في النصف الثاني من سنة 2010 كان مطبوعا بانطلاق الشرارات الأولى للاحتجاجات الممهدة للربيع الديمقراطي، وعلى المستوى المسرحي انفرط عقد مسرح الهواة ودخل المسرح المغربي دينامية جديدة تنحو نحو الاحتراف بفضل سياسة الدعم التي أقرتها وزارة الثقافة. لقد كانت السنوات الثلاث الأولى بمثابة اختبار لقدرة الجمعية على الاستمرار وتلمس الطريق نحو القبض على مقومات الفعل المسرحي، تأطيرا وممارسة، باعتباره النشاط المحوري للجمعية. غير أنها استطاعت بعد ذلك أن تحدد بوضوح خلفيتها النظرية من خلال التصريح بكونها تستهدف إعادة بناء الحركة المسرحية بواد نون والأقاليم الجنوبية للمملكة والانتقال بها من الهواية إلى "الاحتراف" اعتمادا على أربع رافعات أساسية: نهج تشاركي منفتح على مختلف الفاعلين المؤسساتيين والمبدعين المسرحيين محليا ووطنيا التكوين والتأطير: بناء على خطة مدروسة تراهن على إعداد كفاءات محلية مؤهلة لربح رهان الانتاج والتدبير . المهرجانات المسرحية: وهي فضاءات للاطلاع على المنتج المسرحي الوطني والعالمي والاستفادة منه والاحتكاك بالممثلين والمخرجين والتقنيين من مختلف الحساسيات الفنية والمدارس المسرحية من داخل الوطن وخارجه. الإنتاج والترويج: تماشيا مع التصور الجديد لوزارة الثقافة في مجال دعم الإبداع المسرحي والعمل على الاستفادة من الدعم لتكريس حضور مسرحي ملموس في الساحتين المحلية والوطنية. جمعية أدوار والاتجاه نحو المسرح الحساني .. شكل التكريس الفعلي للحسانية كرافد أساسي من روافد الثقافة المغربية في دستور 2011 منعطفا جديدا في الممارسة المسرحية بالأقاليم الجنوبية التي أصبحت تحظى بعناية وزارة الثقافة ومؤسسات وطنية كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان ووكالة الجنوب. الشيء الذي انعكس إيجابا على المسرح الحساني وظهرت بوادر إشراقات مسرحية واعدة خلال عدد من المهرجانات الوطنية التي تعنى بالمسرح الحساني. وارتباطا بهذه التحولات الإيجابية، ومساهمة منها في تأهيل هذه التجربة الفتية، دخلت جمعية أدوار للمسرح الحر مغامرة استكشاف المسرح الحساني منذ سنة 2013 مع مسرحية "الريح" التي تم تكييفها بشكل نسبي مع متطلبات العرض المسرحي الحساني خاصة على مستوى لغة النص وبعض السمات الصحراوية المتمثلة في الزي على وجه الخصوص إضفاء بعض الشحنات النفسية والعاطفية على الشخصيات لتتلاءم مع الشخصية الصحراوية وأبعادها الداخلية. غير أن مسرحية "كدور الذهب" هي بداية جادة في اتجاه التأهيل والتطوير. فقد تم فيها الاشتغال على فكرة مقتبسة عن النص المسرحي "حكاية صديقين" للكاتب العراقي محي الدين زنكنه وإخضاعها لمستلزمات البناء الدرامي الذي يتلاءم مع الفضاء الحساني والبيئة الصحراوية. إن استدعاء الطقوس الصحراوية في مسرحية "كدور الذهب" من خلال الخيمة وملحقاتها وحركات الممثلين وإيماءاتهم وانفعالاتهم المتناقضة والفراغ الممتلئ الذي تمثله الصحراء في عمقها وامتداداتها اللامتناهية وأيضا من حيث شكل الأزياء ونوع الموسيقى يشكل نسقا تجريبيا يقود لاستكشاف المخزون الفني العميق والثري لذاكرة مهملة تحت لهيب الصحراء وكثبانها المتحركة. أما الإنارة فقد تم استخدامها لتحيل على حركة الزمن التي تبدو ثقيلة وتميل كثيرا إلى لون الصحراء والكشف عن هويتها كما تعكس في صفائها بريق الذهب وحالات التمزق التي تعيشها الشخصيات والنهاية المؤلمة التي آلت إليها. أما في مسرحية "شكيريدة" فإن اختيار النص المسرحي "في الكمين" للكاتب التركي جاهد اتاي لا يخرج عن سياق البحث المستمر عما يعضد هذا المشروع المسرحي الذي تحمله جمعية أدوار والذي يستهدف تقريب المسرح من الناس بأقاليمنا الجنوبية. إنه يشجع – كما في عرض "كدور الذهب" – على الاستمرار في التفكير عن كل ما يمكن أن يحرك الكلمات في جسد الممثل وفي أنفاسه وإيحاءاته، ويهز مشاعره ويستنفر ذاكرته. وعلى هذا الأساس يشكل الممثلون حجر الزاوية في بناء العرض، حيث سنكتشف معهم عنف الكلمات وتجلياتها، وتصلب المشاعر وتقلبها.. ليست هوية الشخصيات ولا علاقاتهم الاجتماعية هي ما يهم في العرض المسرحي، بل تلك الشحنات الدافقة من المشاعر والأحاسيس التي تخترقهم وتجعلهم على قيد الحياة، ومن تم فالممثلون الثلاثة لا يتقمصون شخصيات النص فحسب ولكن كل واحد منهم يشكل قطبا من الأحاسيس يعملون على جعلها تنزلق بيسر بينهم من جهة وبينهم وبين المتفرجين من جهة أخرى . ولأن النص الذي تمت تبيئته بما يحقق أهداف المشروع يحفل بالمرح وبالضغينة على حد سواء .. وشخصياته واضحة المعالم تتحرك في فضاء مألوف.. فقد كان من الضروري وضع تصور لإيقاع حركة الجسد وتعبيراته العميقة يتزامن بشكل دقيق مع وضعية الشخصية ومزاجها العام وحدة الصراع وخفوته، كما تنسجم مع طبيعة الإنسان في الصحراء وحركة الزمن التي تتسم بالبطء وتضفي على الفضاء مسحة من الصوفية. إضافة إلى ذلك فإن عرض "شكيريدة" كان حافلا بعدد من الحكايات الشعبية والشخصيات التاريخية وفيه استحضار لمجموعة من الأمثال والحكم المتداولة في المجتمع الحساني وتم استثمارها من أجل أن تطفو على السطح كثافة الخطاب الملفوظ في انسجام مع اللحظة المسرحية بمكوناتها الجمالية المختلفة. ان المسرح الذي تقترحه جمعية أدوار في هذا العمل الفني، يركز بالأساس على اللعب والتمثيل وتعبئة الخيال، ويستدعي ديكورا بسيطا ومألوفا لكنه ذو مغزى ويسمح بالانتقال في فضاء اللعب وربط المشاهد ببعضها.. كومة من الحجارة على اليمين و ممشى على شكل منحدر يتقدم مبنى طينيا على شكل قصبة يتوسط الخشبة وبضع شجيرات شوكية متناثرة هنا وهناك تشكل جميعها امتدادا لقرية واحية من قرى الجنوب المغربي الصحراوي. أما الملابس والإنارة فهي مكملات تضفي على العرض مسحة جمالية وتسمح بتأكيد الشخصيات وإبراز انفعالاتها. في حين تواكب الموسيقى مجريات الأحداث وتساير المناخ العام للعرض المسرحي. إن الملاحظ في هذه التجربة أنها اعتمدت تقنية الاقتباس / الإعداد في الكتابة المسرحية بما هي عملية توليد النص المسرحي الآخر في النص المسرحي الحساني الممكن إيجاده. ونعتبر أنها عملية مشروعة تتحكم فيها الظروف السوسيو ثقافية التي يمر منها المسرح الحساني راهنا ويراد بها تتبيث هوية النص المسرحي الحساني وأقلمته مع طبيعة المتلقي. جمعية أدوار وتأصيل المسرح في الثقافة الحسانية.. ان عملية التأصيل التي نباشرها في تجربتنا لا تنغمس في البحث عن جذور المسرح في الثقافة الحسانية وتقديم مبررات وجوده من عدمه، في صلب هذه الثقافة من خلال الحديث عن أشكال ما قبل مسرحية أو طقوس معينة تلتمس له وجودا شرعيا، بل نكرس جهودنا في تجريب الوسائل والطرق الملائمة لتطوير الممارسة المسرحية وتقريبها من المتلقي الناطق بالحسانية وغير الناطق بها انطلاقا من إيماننا بأن الظاهرة المسرحية هي نتاج إنساني من أجل الإنسان ذاته، وأن عددا من الأشكال الدرامية القبلية موجودة في المجتمع الحساني مثله في ذلك مثل باقي المجتمعات الإنسانية، ويمكن توظيفها لإنتاج عروض مسرحية تحقق التواصل والتفاعل المنشودين. إن عملية التأصيل التي نسعى إليها في ممارستنا المسرحية التأسيسية لن تتحقق في اعتقادنا إلا بالانتباه إلى ما توفره لنا الدراسات الأنتربولوجية، و الأنتربولوجيا الثقافية وفروعها على وجه الخصوص، من إمكانيات للتعرف على البناء الاجتماعي للمجتمع الحساني والتغيرات الثقافية التي طرأت عليه وأيضا مجموع العلاقات التفاعلية والتواصلية المتباينة داخل النسق الاجتماعي الحساني. وأيضا الدراسات التاريخية التي تناولت تحولات مجتمع "البيظان" والاستفادة من مختلف التجارب المسرحية الوطنية والعالمية واعتماد آلية التجريب ذات فعل مؤسس ومؤثر وممتد في الزمان والمكان. بقلم عبد اللطيف الصافي