عربيَّة الجنود كلمة «حب» يكتبونها من اليمين الى اليسار، مبتدئين حيث ننتهي ومنتهين حيث نبدأ. من حيث ننهي حرباً قد يبدؤون حرباً أخرى، أو يستعيدون تلاوتها، كأحد أصداء التاريخ. ما إن تنطقْ كلمة «موت،» حتى تسمعَ سلاسلَ الرياح تندفعُ صوب حُجُبِ المجهول. هذه لغة صُنعتْ من الدم، صُنعتْ من الرمل والزمن. لكي تتحدثها، عليك أن تمتلكها. خِزانةُ الوَجَع لم يبقَ هنا سوى الوجع، وسوى الرصاصِ والألم، وسوى النزفِ حتى الموت، وسوى لعنات الجرحى وشتائمِهم وتجديفاتهم لم يبق هنا سوى الوجع. صدّقْ ما تراه عيناك. حين ترى صبيّاً في الثانيةَ عَشَرة يدحرج رمانةً في غرفتك، أو حين يفتح قناصٌ ثقباً في جمجمتك، أو حين يترجل أربعة رجال من سيارة أجرة في الموصل، ويمطرون الشارع بالرصاص، صدّقْ ذلك. إفتحْ خزانة الوجع، وأنظر ما فيها من سكاكينَ وأنياب. إفتحْ خزانة الوجع، وتعلّمْ كيف يأتي الرجال الأشدّاء ليصطادوا الأرواح. أكياسُ الجُثَث الغربانُ المجرمة تواصل التحديق بصمت، من أعالي أشجار اليوكالبتوس، ونحن نقف قرب جثث الجنود، وقد بدوا كأنهم سينقلبون، ويستيقظون من حلمٍ ما ليستجوبونا عن الدم المتيبّس على جِلْد رؤوسهم، وعن الرصاص الدفين في أقفية جماجمهم، وعن زوجاتهم وأولادهم، وأين هم الآن، في هذا الصباح، ولمَ كلُّ هذا الذباب المحوّم، وعن طعم الخبز الماسخ الذي زال من أفواههم، ثم يتمطَّوْن وينهضون، وهم يعجبون لهؤلاء الغرباء الذين راحوا يركلون أقدامهم المتصلِّبة، ويصرخون: «آخر نداء، يا ابن... آخر نداء.» يوم العودة إلى الوطن الهياكل العظمية تستريح في صناديقها ومازالت، بعد عشرين عاماً، مَرْخِيَّةَ الفكين، كأنها مندهشة لموتها. أودُّ لو أستلقي بينها، لو أُلَفْلَفُ بأعلام الأمم كلها، ولو أُرْبَطُ بالضوء والظل. أودُّ لو تنحني موظفة الصليب الأحمر عليّ، لكي يمكنني أن أرى النظرة التعبى في عينيها وهي تدوِّن اسمي.