بعد أكثر من سبعة أشهر من الانتخابات التشريعية في العراق، وإعلان نتائجها والتصديق عليها، لم تتشكل حكومة جديدة ولم يجلس البرلمان الجديد (مجلس النواب) بشكل طبيعي، حيث افتتح جلساته لأداء القسم وتركها مفتوحة دون تطبيق لنظامه وإنكار لدوره في العملية السياسية الجارية. وزار نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، بغداد أكثر من مرة، علنا وسرا، وهو المكلف بالملف العراقي من البيت الأبيض، وكذلك وزيرة الخارجية الأمريكية، لإبداء «النصح» في إتمام الصفقات السياسية تحت الوصاية والنفوذ الأمريكي، والإشراف، كما أعلن رسميا، على عمليات الانسحاب العسكري الأمريكي من المدن العراقية وتطبيق الإستراتيجية الأمريكيةالجديدة في شن حروب جديدة في مناطق أخرى. يعني هذا أن المشهد السياسي في العراق اليوم، يقوم على استعصاء سير العملية السياسية الأمريكية في العراق، كما ترغبها، رغم كل الجهود والضغوط المبذولة، واستمرار «الفوضى الخلاقة» في التدهور السياسي، والنهب الاقتصادي والفدرلة الإدارية، وإشاعة الفساد والإفساد، وبناء قواعد اجتماعية واقتصادية تقوم بمهمات الاحتلال المباشر. وخلال الفترة الجارية، يجري التركيز على هذه الصورة للمشهد لإبعاد التفكير بالاحتلال ونفوذه وسير عملياته التي خطط لها ومشاريعه التي سعى إليها، وتحويل الأنظار عنها إلى الصراعات السياسية المفتوحة والتدخلات الإقليمية، لاسيما التي تصب في خدمة الأهداف المنشودة، وإشغالها في صناعة أعداء جدد وتخويفها من تهديدات مصيرية رغم العمل عليها. وهو الدور الذي تتبناه الإدارة الأمريكية ومؤسساتها العسكرية والمدنية والإعلامية المتمركزة في العراق والمنطقة. فأية متابعة لتصريحات المسؤولين الأمريكان حول الأوضاع في العراق والمنطقة، تحيل إلى إشغال العراق والمنطقة بإشكاليات بناء السلطة والدولة الجديدة والصراعات حولها والتفرغ الإقليمي لها والعمل على إخفاء جرائم الاحتلال وسياساته التي أوصلت الأوضاع إلى هذه الصورة الكارثية. هذه الصورة بذلت لها جهود وإمكانات كثيرة لتوظيفها واستخدامها. (نقل عن مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية جيفري فيلتمان أن بلاده صرفت نصف مليار دولار لتشويه سمعة حزب الله والمقاومة في لبنان، وهناك أخبار كثيرة عن مثل هذه الأموال صرفت لزعيم قائمة انتخابية في العراق للترويج لقائمته). وهي في كل الأحوال، ورغم كل الإمكانيات، تكشف عن فشل الإستراتيجية الأمريكية في مشروعها في العراق والمنطقة، وما إعلاناتها وادعاءاتها الانسحاب وإعادة الانتشار والتهرب من المسؤوليات والاعتراف بعدم تحقيق النصر، إلا مؤشرات بارزة ودلالات واضحة على ذلك. حين احتل العراق في 2003 وتكلف بول بريمر في حكمه كمندوب سام، وضع باسم حكومته المربع الأول للاحتلال والتدمير للدولة العراقية والمجتمع العراقي. وباعترافه وتنفيذه لتوجهات وخطط الإدارة وأهدافها المشتركة مع القاعدة الإستراتيجية العسكرية في المنطقة، ومخططاتها المعلنة في تفتيت المنطقة وتخريبها ونهب ثرواتها والسيطرة على قدراتها وتطلعاتها المشروعة رسم ملامح الخارطة السياسية المطلوبة منه وأقام أسسها، سياسيا ودستوريا واجتماعيا، وهو ما يظهر على سطح الواقع في المشهد السياسي. ومن نكد الدهر أن يكون جوزيف بايدن، الذي أفصح في مشروعه عن العراق عن هذه الأهداف والخطط، هو نائب الرئيس الأمريكي والمكلف بالملف العراقي حاليا، مواصلا مع غيره إعادة العراق إلى ما قبل العصر الصناعي، كما صرح قبله وزير الخارجية الأمريكي السابق جيمس بيكر. هذه الخطط والمشاريع هي التي يراد لها أن تتحقق في العراق، ولهذا يستمر المشهد السياسي فيه بهذا الشكل والأسلوب، ولإثبات نجاح التجارب التي يمر بها العراق نموذجا لاستعمار جديد بواجهات جديدة. وحين وضع بريمر وبايدن وغيرهما، والسفراء الأمريكان الذين تعينوا في العراق، (خمسة سفراء بعد بريمر) وأجهزة السفارة ومرتزقتها مخططاتهم لإدارة العراق، في إطار الإستراتيجية الجديدة في الاستحواذ والهيمنة وبسط النفوذ الشامل، استعانوا بالسياسات الكلاسيكية للاستعمار والامبريالية. ووظفوا جهودهم ومساعيهم لها والتمكن من تصنيع أدوات محلية وإقليمية لها. من بين ما تصر الإدارة الأمريكية وقواتها المحتلة على ما تسميه بالعنف في العراق وتحميل الحكومة مسؤوليته، وأطراف أخرى تتغير مسمياتها حسب توجهات رياح الاحتلال، يتوضح خيط آخر من تلك المخططات. والآخر تفضحه تدخلات المسؤولين الأمريكان، خاصة العسكر، مما يفند خطط الانسحاب وتسليم السيادة والاستقلال للعراقيين. ولعل في تصريحات الجنرال رالف بيكر قائد القوات الأميركية في بغداد يوم 2010/10/1، وتأكيده أن الفشل في تشكيل حكومة في العراق، يعيق جهود قوات الأمن في جمع معلومات عن «الإرهابيين» و»الجماعات المسلحة»، وتعليقاته حول عدم انخفاض المستوى الحالي للعنف في العراق قبل تشكيل حكومة جديدة، وغيرها من الأقوال المشابهة، برهان آخر على استمرار الاحتلال وتدخله المباشر في صناعة المشهد السياسي في العراق وتدهوره على مختلف الصعد. والطريف في قوله أن هناك علاقة بين ثقة الشعب في الحكومة وقوات الأمن، واستعدادهم لتبادل المعلومات بشأن المسلحين في المجتمعات المحلية. وأضاف «بالإمكان القول أن مستوى الثقة لم يبلغ درجة تقديمهم الدعم للجماعات المتمردة. إنهم في الوسط بين الطرفين وعندما يفعلون ذلك، فالميل إلى المشاركة في المعلومات التي تحتاجها قوات الأمن لتبقى فعالة يتراجع نوعا ما». وختم: «لهذا نرغب في رؤية حكومة تتشكل في أقرب وقت ممكن». تصريحات الجنرال الأمريكي لا تختلف عن تصريحات السياسيين الأمريكان وتوابعهم في المؤتمرات التي تعقد حول العراق، من دول جوار أو جامعة حكومات عربية أو أية نشاطات أخرى. إذ إن أغلبها يدخل في أبواب التضليل على صورة المشهد الحقيقية وتشويه الوقائع الدامغة وصناعة أوهام وتبذير أموال وجهود كبيرة لاستمرار المشهد السياسي الحالي في العراق، ودفعه إلى المربع الأول تحت مسميات متعددة. منذ الاحتلال وإلى اليوم، جرى تشويه كل المفردات التي جاءت بها إدارات الاحتلال وتوابعها، من ديمقراطية وحرية واستقلال وسيادة وقيم اجتماعية وحضارية نبتت في أرض الرافدين منذ قرون طويلة. انتهت الانتخابات التي أريد منها أن تكون نموذجا تطبيقيا ومؤثرا، والسؤال: ماذا حصل بعدها؟!. تصريحات المشتركين فيها وصولاتهم وجولاتهم، كلها أو أغلبها تفصح عن تورط فعلي في المشروع المخطط للعراق، وإعادته إلى الوراء، بدلا من السير فيه إلى الأمام، وإنقاذه من الكارثة.