شيع ظهر يوم الجمعة الأخيرة بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء جثمان المفكر العربي والإسلامي الكبير، محمد أركون الذي وافته المنية يوم الثلاثاء الماضي بإحدى المصحات بباريس عن عمر يناهز 82عاما بعد صراع مرير مع المرض. وجرى تشييع جثمان الفقيد بعد صلاة الظهر بمقبرة الشهداء، في موكب جنائزي مهيب حضره حشد غفير تتقدمه زوجته ثريا اليعقوبي وكريمته سيلفي أركون، والعديد من الشخصيات من عالم الفكر والثقافة والسياسة والإعلام. وقال الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بنعبد الله، «إن الراحل الذي تربطه بالمغرب علاقة وطيدة تعود إلى عقود خلت، يعد علامة فارقة في الفكر الإسلامي الذي عمل على إغنائه ببحوثه ودراساته ليجعل منه مجالا للتنوير والتثقيف في وقت تشتد فيه الجهالة». وأضاف بنعبد الله في تصريح لبيان اليوم، أن العالم العربي والإسلامي فقد في وفاة الراحل الذي كان يحمل أفكارا قوية نابعة من الفكر الإسلامي تتقاطع مع القيم الكونية المنفتحة والحداثية، رجلا شامخا وعالما متشبعا بروح التسامح وحب الآخر، شكل ببحثه ومنهجه الرصين في وقت احتدم فيه الصراع بين أطراف لا تريد للعالم أن يسير في اتجاه السلم والتسامح ونبذ الخلافات، صلة وصل بين العالم الغربي والإسلامي. ومن جهته، عبر الحبيب المالكي القيادي بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عن قوة الفاجعة التي ألمت بالعالمين العربي والإسلامي برحيل محمد أركون، وهي فاجعة مضاعفة تأتي في وقت لم تمض سوى شهور قليلة عن وفاة محمد العابد الجابري أحد أقطاب الفكر العربي. وأضاف المالكي أن فكر الراحل كان يمثل ليس فقط تراثا مغاربيا بل أيضا تراثا إسلاميا على اعتبار انشغال الراحل بالفكر الإسلامي، مبرزا الجرأة التي تميزت بها المنهجية الصارمة التي اتبعها الفقيد في فهم بنية الفكر الإسلامي وتطوره، حيث كان المفكر لا يكتفي بالمسلمات ولا يجعل من الثوابت خطوطا حمراء في بحوثه ودراساته. وأشار المتحدث ذاته في معرض شهادته عن الراحل، أنه كان يجتهد ويحاول دائما أن يستوعب أسباب النزول لترسيخ قناعاته ويجعل من القيم التي كان يؤمن بها، أي الحوار والتسامح والانفتاح، القيم المؤسسة لإسلام الغد، وأن ما أنتجه الراحل من فكر يشكل اليوم أرضية خصبة تساعد على تعميق الحوار بين الديانات و الحضارات، خدمة للسلم. وشكلت علامات الحزن والأسى التي ارتسمت على وجوه الحاضرين الذين غص بهم مدخل وجنبات مقبرة الشهداء خير دليل على مكانة الراحل الذي ولد عام 1928 في بلدة تاوريرت ميمون (آث يني) بمنطقة القبائل االأمازيغية بالجزائر، وتميز فكره بمحاولة عدم الفصل بين الحضارات الشرقية والغربية أو احتكار الإسقاطات على أحدهما دون الآخر، بل إمكانية فهم الحضارات دون النظر إليها على أنها شكل غريب من الآخر، وانتقد الاستشراق المبني على هذا الشكل من البحث. ودرس الفقيد الأدب العربي والقانون والفلسفة والجغرافيا بجامعة الجزائر وقام بإعداد التبريز في اللغة والآداب العربية في جامعة السوربون في باريس. ومن جانبه، قال الباحث الأمازيغي أحمد عصيد «إن رحيل محمد أركون سيعيد الاعتبار بشكل واسع لأطروحته الفكرية العميقة وسيثير الكثير من النقاش حول عطائه المعرفي الذي قدم الشجاعة الفكرية والأدبية بالصرامة المنهجية والتي أثارت الكثير من الأسئلة لامست الطابوهات في الحياة الثقافية بالمجتمعات الإسلامية. وأضاف عصيد في تصريح لبيان اليوم، أن أهم ما يمكن الاحتفاظ به من الطرح الفكري الكبير لمحمد أركون هو ذلك الإصرار على ضرورة أنسنة الفكر الإسلامي وإعادة العمق الإنسي للثقافة الإسلامية التي فقدته مند القرن الرابع الهجري ومن أهم ما يمكن الاحتفاظ به للمستقبل، كذلك، إصراره على ثورية وملحاحية قراءة جديدة للإسلام من منظور العصر، وذلك عبر تحديثه لإعادة قراءته على ضوء القيم الكونية المعاصرة، مبرزا أن هذه الدعوة هي في حاجة اليوم إلى نخبة نيرة منظمة لكي تحمل هذا المشروع وتساهم به في بناء الحضارة الحالية لأن المسلمين حاليا يعيشون على هامش التاريخ المعاصر. ومن جهته، قال المثقثف المغربي حسن نجمي «إن المثقفين والمبدعين وهم يوارون التراب الجثمان الطاهر للراحل محمد أركون في مقبرة الشهداء بالدارالبيضاء، يشعرون بقوة الفاجعة، لاسيما وأنه لم تمض سوى فترة قصيرة جدا عن توديعهم للمفكر الكبير محمد عابد الجابري، والفقيدان معا يعدان ركنان بارزان من أركان الفكر العربي الحديث. وأضاف نجمي في تصريح لبيان اليوم، أنه بالرغم من ثقل الفجيعة وعمقها الجارح، هناك ما يبعث على الاعتزاز في اختيار محمد أركون بوعيه وإرادته أن يدفن رفاته الطاهر في التربة المغربية، فهذا تأكيد من الراحل على انتمائه للأفق المغاربي الرحب صادقا وصديقا، إضافة إلى أن اختياره هذا أراد من خلاله أن يبعث بإشارة قوية إلى من يمهم الأمر، وليؤكد أيضا على انتسابه للفضاء الفكري المغربي الذي اعتز به دائما كما اعتز بالقارئ المغربي الذي أدرك بعمق مشروعه الفكري البالغ. وأشار حسن نجمي إلى أن الراحل من المفكرين الذين قلبوا التربة الثقافية العربية برؤية منهجية جديدة وبمجهود فكري قوي وبخلفيات معرفية وعلمية رصينة، كما أغنى المتن الفكري العربي بعناوين متعددة أمكنها أن تسهم في إطراء وجدان الفكر والعقل والمتخيل الجماعي في الأمة العربية الإسلامية، ومكن هذا المشروع أيضا أن يأخذ الثقافة العربية إلى أفقها الإنساني الرحب خصوصا عند استحضار التعددية اللغوية التي كان يتميز بها الراحل. وعبر محمد الصغير جنجار نائب مدير مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء، ومدير مجلة «مقدمات»، عن مشاعر الحزن الذي يشعر به العالم العربي والإسلامي إثر الفاجعة التي ألمت به بوفاة المفكر الكبير محمد أركون وقبله محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد. وقال جنجار في تصريح لبيان اليوم، إن الراحل يعد من بين المفكرين الرواد الكبار لأنه دشن منهجا جديدا في مقاربة الظواهر الدينية بصفة عامة والتراث الإسلامي بصفة خاصة بمعنى أنه كان من الباحثين القلائل العرب والمسلمين الذين أدمجوا المقاربات والمناهج الحديثة والفكر الإنساني الحديث بصفة عامة في دراسة المبحث الإسلامي. وأشار المتحدث ذاته إلى أن الورش الكبير الذي دشنه محمد أركون ويشتغل عليه الكثير من الطلبة والباحثين، بإمكانه أن يكون الطريق الصواب والصحيح لدراسة تراثنا الإسلامي وورشا مستقبلبا في هذا المجال، رغم الظروف التي يمر بها العالم العربي والإسلامي. وفي السياق ذاته، اعتبر محمد عبد الرحمان برادة المدير العام للشركة العربية الإفريقية للتوزيع والنشر والصحافة «سابريس»، أن رحيل المفكر الإسلامي الجزائري محمد أركون خسارة كبرى للمغرب العربي والإسلامي. وقال محمد عبد الرحمان في شهادة مؤثرة لبيان اليوم، حول رحيل هذا المفكر الكبير الذي عمل طوال حياته على الدفاع عن الإسلام بحزم وقوة، «إن الراحل كان بمثابة منارة شامخة تضيء سماء العالم العربي والإسلامي الذي ما أحوجه لأمثال هذه المنارات. وأضاف بالقول : «ونحن أمام قبر المرحوم محمد العابد الجابري لا يمكن إلا أن نقرب بين الاثنين، وأن نبرهن ونعمل على رفع راية العالم العربي والإسلامي، وتفسير معالم هذا العالم تفسيرا واضحا لكل من يجهل قوة وقدرة الإسلام والعالم العربي». وأشار مدير «سابريس»، إلى أن الأعمال التي تركها الراحل تصب كلها في اتجاه رفع مستوى العالم العربي والإسلامي، وأن اختياره لكي يدفن جثمانه في المغرب نابع من حبه وشغفه بهذا البلد المتسامح والمنفتح الذي عرفه عن كثب، كما يحمل هذا الاختيار حبه لأسرته زوجته بالخصوص، وعربون قوي على العلاقات الأخوية التي تربط بين المغرب والجزائر، وهي علاقات أكبر من الظرفيات التي يجب أن تزول بين البلدين. وقد ترك الراحل مكتبة واسعة من المؤلفات من بينها «الإسلام : أصالة وممارسة» و»تاريخية الفكر العربي الإسلامي أو نقد العقل الإسلامي» و «الفكر الإسلامي : قراءة علمية» وذ»الإسلام : الأخلاق والسياسة» و» من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي» و»الإسلام أوروبا الغرب - رهانات المعنى وإرادات الهيمنة»، و»نزعة الأنسنة في الفكر العربي»، و» قضايا في نقد العقل الديني كيف نفهم الإسلام اليوم».