بالأمس القريب غادر إلى دار البقاء قيدوم المادحين عبد الكريم بنعبد الله بالرباط وقبله رحل شيخ المادحين عبد اللطيف بنمنصور بالرباط أيضا, ليلحقا بشيوخ كبار لفن المديح والسماع بمختلف المدن المغربية. وحرص هؤلاء الشيوخ على لزوم الزوايا التي جعلوها مدراس لنقل هذا الفن إلى تلامذة ومريدين منهم من «يقاوم» للحفاظ على ما تلقاه وإيصاله إلى الجيل المتعاقب ومنهم من فضل الاحتفاظ بما تلقاه لنفسه لأسباب عدة منها إقفال عدد من الزوايا وعزوف العدد الوفير من المادحين المتعلمين عن «التبحر» في هذا التراث الفني. الشيوخ مربون ومعلمون في الرباط كما في سلا وتطوان ومراكش وفاس ومدن أخرى عريقة, كانت مختلف الزاويا تضيق بمن فيها حيث يؤمها الصغار والكبار لحضور حلقات الذكر التي كان يحييها شيوخ كبار تمثلوا هذا الفن سواء بلباسهم التقليدي أو طريقة جلوسهم «التربيعة» أو سلوكهم المنضبط فضلا عن إدارتهم لحلقات الذكر بصنائع وبراويل وأشعار وإشادات لم يبق منها إلا النزر القليل. «أول ما كان يثيرنا عند ولوجنا إلى الزوايا التي كانت منتشرة - يقول عبد السلام الجبلي (73 عاما) وهو أحد كبار المادحين بسلا ومقدم الزاوية الدرقاوية بها - هو الهيئة التي يكون عليها الشيخ الذي كان يربي أولا على طريقة الجلوس وتمثل صفة المادح قبل الإبحار بنا في عالم الفن عبر ميازين أساسها قصيدتا البردة والهمزية للإمام البوصيري». وتابع عبد السلام أن هؤلاء الشيوخ كانوا يحرصون في كل حلقة من حلقات الذكر على أن تكون الحصص الفنية المقدمة قائمة على وحدة الموضوع، إما في مدح الرسول الكريم أو في التوسل أو «كلام القوم» أو الشعر الصوفي, وأن هذه الحصص كانت تقوم على أداء القصيدة بكاملها مع تنويع غننها وتخليلها بأزجال وبراويل وإنشادات. «لقد كنا نعيش في مدرسة فنية بكل ما في الكلمة من معنى مدرسها شيخ ومواد التدريس فيها حصص فنية أصيلة وراقية تعطى عن طريق الأفواه لا عن طريق الكراسات أو الأشرطة لأن هذا الفن لا يأخذ إلا من أفواه الرجال». ولم يفت المادح نور الدين المجاطي (50 سنة من الرباط) أن يذكر بأن فن السماع الصوفي والمديح النبوي ارتبط في المغرب بالزاوية والطرق الصوفية التي كانت توظف هذين الفنين في التربية السلوكية وفي الإرتقاء بالأرواح إلى معالي الدرجات. وأبرز أن الزوايا بأجمعها بالمغرب استطاعت بفضل شيوخها أن تحدث تراثا صوفيا موسيقيا فنيا غنيا بالتنوع والتعدد بحيث أصبح من مقومات الثقافة المغربية الأصيلة. وأعرب الحراق , وهو أيضا مادح وابن للزاوية, عن الأسف لكون رحيل هؤلاء سيغيب تراثا جما من الأشعار والتلاحين و»سيفقدنا ملامح نفيسة من شخصية المسمع المغربي الأصيل, ذلك أن فن المديح والسماع لم يحظ بالتوثيق والتدوين الكافيين, مما يعني أننا لم نستفد على هذا المستوى من الشيوخ الراحلين, بخلاف ما حصل في فنون تراثية أخرى». توثيق فن المديح والسماع ضرورة لحمايته من الضياع بات فن المديح والسماع على الطريقة المغربية الأصيلة عرضة للضياع بعد الرحيل المتوالي لشيوخه وتراجع دور الزوايا في إيصاله إلى الخلف الذي يميل العديد منهم إلى تطعيمه بألوان شرقية, مما يساهم في «تشويهه».ويعرب السيد المجاطي عن الأسف لكون هذا الموروث الثقافي المغربي الأصيل أصبح مهددا اليوم أكثر من غيره بالاندثار, بفعل رحيل عدد من شيوخه وأساتذته الذين نقلوا معهم الكثير من هذا التراث القيم. وسجل أن هذا الوضع يستوجب من المسؤولين والمهتمين بهذا الموروث الثقافي, العمل على جمعه وتدوينه وتوثيقه حتى يمكن إنقاذ ما بقي منه من الضياع, داعيا القائمين على المهرجانات التي تنظم في هذا الخصوص إلى جعلها آلية للحفاظ على أصالة هذا الموروث وأن يتم تجنب «التحريف» حتى لا تضيع قيمته الفنية والتراثية. ويرى المادح الحراق من جانبه, أنه بغياب «الشيوخ سنحتاج إلى زمن أو فترة مخاض حتى تتبلور مرجعية معيارية لتمييز الصالح من الطالح, وبروز أعلام أو مرجعية مؤسساتية تضطلع بوظيفة (الحسبة الأخلاقية) التي كان يضطلع بها بعفوية وتلقائية هؤلاء الشيوخ, إذ لم يكن يستطيع أي كان أن يتطاول مثلا على تحريف التراث بذريعة التجديد, لأنه كان يأخذ في الاعتبار رأي أعلام وازنة لهم سلطة علمية فنية ورمزية تقي هذا الفن من العبث والتمييع وإبقائه وفق أصوله الأخلاقية والأدبية والطربية».