انتشرت وسط بعض الصحفيين وكتاب الأعمدة و"المحللين" في السنوات الأخيرة "تقنيات" مستجدة وغير مسبوقة لقراءة المواقف والتوجهات لدى الفاعلين الحزبيين ومؤسسات الدولة. لم يعد التحليل ينطلق لدى هؤلاء من استحضار تصريحات أو مواقف معلنة أو تجميع وقائع موضوعية وربطها علميا لتفضي إلى مؤشرات مقنعة، وإنما صارت منطلقات الكلام تتركز في الحركات الجسدية للفاعلين وفي أمزجة الأشخاص، وأحيانا حتى في أشياء يتخيلها من يكتب أو يتوهمها أو يختلقها، وكل هذا يجري تقديمه كما لو أنه حقائق ويجب أن تنتج عنها سيناريوهات وقناعات سياسية. من جهة ثانية، يواصل بعض هؤلاء الجهابذة الاعتماد على "مصادر مطلعة أو عليمة أو قريبة من القرار"، ودون أي توضيح لهويتها عدا تغليف الكلام المنسوب لها بخطاب التعالم، ما يجعل الكتابة في نهاية المطاف نصبا وتحايلا واضحين. هذه الموجة من الكتبة، وأحيانا ينضم إلى فريقها بعض مدرسي الجامعات كذلك، بتنا نجدهم منتشرين على أعمدة الصحف، ويقبضون على بعض الجمعيات التي تزعم كونها مراكز للبحث في السياسة وفي الأمن وفي مكافحة الإرهاب وفي الانتخابات وفي دراسة المجتمع وفي حقوق الإنسان وفي الإعلام وفي كل شيء يتحرك على هذه الأرض. لا شك أن بعض الجهات السياسية واللوبيات المصلحية المختلفة تقوم بتسريب رسائلها ومطالبها وأوهامها عبر هؤلاء "لفهايمية"، وهم يغلفون هذه الخدمة المؤدى عنها بكثير فدلكات خطابية وتنظيرية متعالية، والحكاية برمتها جعلت خطابنا السياسي يبدو، مع الأسف، مدثرا بكثير من البؤس و... الفراغ. لا ننفي هنا وجود كتاب ومحللين وباحثين جامعيين في علوم السياسة يستحقون الاحترام ويفيدون تطور مسار سلوكنا السياسي والمؤسساتي والحزبي العام، وبعضهم فعلا من جيل الباحثين الشباب المعروفين بمساراتهم الأكاديمية والعملية الناجحة والباعثة على التقدير، ولكن الكثيرون، بصراحة، لا يبعثون سوى على الشفقة وعلى الأسف جراء ما قادوا إليه ممارستنا السياسية والإعلامية معا. لا يمكن لتجربتنا الديمقراطية ولمنظومتنا السياسية والمؤسساتية أن يتقدما في غياب وضوح العلاقات، أو في ظل استمرار توجيه الإيحاءات و"الميساجات" عبر هذه الكائنات السطحية، أو بقراءة المواقف وترويج السيناريوهات من خلال حركات يد أو جسد أو عيون هذا الفاعل السياسي أو ذاك، أو من خلال جعل مزاج هذا القيادي الحزبي أو ذاك مؤشرا لمستقبله السياسي أو مستقبل طرف آخر، وإيهام الناس أن كل هذا الخرف يصدر عن جهات قريبة أو بعيدة أو عن مصادر مطلعة لا تريد الكشف عن هويتها. من يلعب هذه اللعبة في مغرب هذا الزمان لا يريد أن يستوعب الدروس السياسية والمجتمعية والانتخابية للسنوات الأخيرة، ولا يريد أن يفتح بصره وبصيرته وعقله على ما يجري داخل البلاد أو ما يحيط بها وما يتربص بها. تجربتنا الديمقراطية في حاجة أن تتقدم ضمن إصرار واضح وواع على الإصلاح ومن أجل تمتين استقرار بلادنا ووحدتها وأمنها وتقدمها. مسارنا الديمقراطي يقتضي إنجاحه تقوية مقومات التعددية الحقيقية ورفض الهيمنة والتحكم ومختلف أشكال تبخيس السياسة وإضعاف الأحزاب والنقابات والصحافة والجمعيات والمواجهة الجماعية للفساد، والحرص على تعزيز أسس دولة القانون والمؤسسات. مغرب اليوم يحتاج إلى سياسة وسياسيين يمتلكون المصداقية والكفاءة والجدية ووضوح المواقف والعلاقات، بلا سطحية أو خواء نظر. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته