باريس سان جيرمان ينعش آماله في أبطال أوروبا بعد ريمونتدا مثيرة في شباك مانشستر سيتي    دعوة وزيرة السياحة البنمية لزيارة الداخلة: خطوة نحو شراكة سياحية قوية    منظمة التجارة العالمية تسلط الضوء على تطور صناعة الطيران في المغرب    الاحتيال على الراغبين في الهجرة السرية ينتهي باعتقال شخصين    حجز 230 كيلوغراما من الشيرا بوزان‬    الأشعري يدعو إلى "المصالحة اللغوية" عند التنصيب عضواً بالأكاديمية    طنجة المتوسط يعزز ريادته في البحر الأبيض المتوسط ويتخطى حاجز 10 ملايين حاوية خلال سنة 2024    ضمنهم طفل مغربي.. مقتل شخصين وإصابة آخرين في هجوم بسكين بألمانيا والمشتبه به أفغاني    عامل نظافة يتعرض لاعتداء عنيف في طنجة    فوضى حراس السيارات في طنجة: الأمن مطالب بتدخل عاجل بعد تعليمات والي الجهة    لا زال معتقلاً بألمانيا.. المحكمة الدستورية تجرد محمد بودريقة من مقعده البرلماني    حادثة مروعة بمسنانة: مصرع شاب وإيقاف سائق سيارة حاول الفرار    السكوري: نسخة "النواب" من مشروع قانون الإضراب لا تعكس تصور الحكومة    النصب على "الحراكة" في ورزازات    في درس تنصيب أفاية عضوا بأكاديمية المملكة .. نقد لخطابات "أزمة القيم"    ميناء طنجة المتوسط يكسر حاجز 10 ملايين حاوية في سنة واحدة    عامل إقليم الجديدة يستقبل رئيس وأعضاء المجلس الإقليمي للسياحة    ريال مدريد يُسطر انتصارا كاسحا بخماسية في شباك سالزبورج    حموشي يؤشر على تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    شباب الريف الحسيمي يتعاقد رسميا مع المدرب محمد لشهابي    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    في الحاجة إلى ثورة ثقافية تقوم على حب الوطن وخدمته    جهود استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد بإقليم العرائش    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    نحن وترامب: (2) تبادل التاريخ ووثائق اعتماد …المستقبل    وزارة الداخلية تكشف عن إحباط أزيد من 78 ألف محاولة للهجرة غير السرية خلال سنة 2024    توقيع اتفاقية مغربية-يابانية لتطوير قرية الصيادين بالصويرية القديمة    رسميا.. مسرح محمد الخامس يحتضن قرعة الكان 2025    دولة بنما تقدم شكوى للأمم المتحدة بشأن تهديدات ترامب لها    القضاء يبرء طلبة كلية الطب من التهم المنسوبة اليهم    المغرب يُحبط أكثر من 78 ألف محاولة هجرة غير نظامية في 2024    القضاء الفرنسي يصدر مذكرة توقيف بحق بشار الأسد    منتخب "U17" يواجه غينيا بيساو وديا    الشيخات داخل قبة البرلمان    اعتقال المؤثرين .. الأزمة بين فرنسا والجزائر تتأجج من جديد    وهبي يعرض مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد    الغموض يلف العثور على جثة رضيعة بتاهلة    بنعلي: المغرب يرفع نسبة الطاقات المتجددة إلى 45.3% من إجمالي إنتاج الكهرباء    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء في مهرجان الطفل    120 وفاة و25 ألف إصابة.. مسؤول: الحصبة في المغرب أصبحت وباء    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة    سناء عكرود تشوّق جمهورها بطرح فيديو ترويجي لفيلمها السينمائي الجديد "الوَصايا"    الكويت تعلن عن اكتشاف نفطي كبير    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متخيل الحكاية في مجموعة «سر من رأى» للقاص رشيد شباري
نشر في بيان اليوم يوم 23 - 10 - 2015


قراءة في البنيات النصية ومحمولاتها الدلالية
تشتمل مجموعة "سر من رأى" على عشر قصص وهي على التوالي: "يوم عليك يا «س»"، "الاستثناء"، "تأبط جنحة"، "الطابور"، "مقام ثمل"، "سر من رأى"، "عن السروال أحكي"، "الخلاص"، "ثقب في قعر حلم"، "بتيجة الضاوية".
يدعو هذا البناء العام الذي يتخذ في ظاهرة شكل أقصوصات صغرى تتراوح الواحدة تلو الأخرى بين الطول النسبي والقصر إلى طرح تساؤل منهجي مفاده: كيف تبنى رشيد شباري مفهوم "وجهة نظر" ومن أين استقى الشخوص الورقية في المجموعة عدا بعض الأقصوصات التي اتخذ فيها الرمز وسيلة للعبور والإلقاء؟ ثم ما هو الزمن السردي والصيغة السردية الغالبتين على رشيد جزاء ومقاطع المجموعة؟ وما هي الرؤية إلى العالم التي يرمي إلى طرحها في مجموعة؟ وإلى أي حد كان حارسا أمينا على خصائص الأقصوصة المذكورة سابقا هذا الكائن أو الجنس الغريب العادي الذي يستمد قوته من الذاكرة الشعبية؟ ثم أخيرا ما هي التقنيات والميكانيزمات التي تجعل من مجموعة "سر من رأى" نصا ديناميا يغلي بالحركة ويقبل التفكيك والتأويل؟
لنسجل منذ الآن أن هذه المجموعة استجابة لهوس يسكن دواخل الكتاب الشباب الذين طالما تشبعوا بعطر الحداثة وكسروا التقاليد والأعراف الكلاسيكية، وعلى هذا الأساس يمكن القول أن مجموعة "سر من رأى" ليست نصا ساذجا ولا شفافا إنه بكلمة واحدة، نص مليء بالألغام وساحر بالغموض، وغايتنا نحن هي فك هذه الألغام.
بالاعتماد على الاقتضاب أو الاختزال والتركيز في الحكي، وتكثيف الزمن الحكائي زمن الكاتب، وزمن الكتابة استطاع رشيد شباري أن يجسد أشكال الحكاية القصيرة، بمستلزماتها الحوارية، والقضوية في وقت أصبحت فيه الكتابة تتلفظ أنفاسها الأخيرة بخصوص الكتابة عن الواقع وهذه هي مهمة الأدب في أحسن الاحوال.
إن الواقع جد معقد بحيث لا يسع الكلمات التعبير عنه، لذلك يلاحظ أن السارد غالبا ما يلجأ إلى ملامسة هذا الواقع من ظاهره أي دونما تشريح أو استغوار له، بواسطة محددات لفظية قوامها المركبات الإسمية (م س) والمركبات الفعلية (م ف) وأحيانا مركبات من فراغ يُرمز إليها في النصوص ب (...)، هذا الفراغ يعني أن هناك أصواتا للسارد نارية متأججة تحت الرماد، وهذا نموذج من الألغام التي يَنْصِبها لنا السارد. والمركبات بمختلف أشكالها تتراوح بين الطول والقصر، بحيث أن (م ف) قصيرة غالبا وطويلة في المعنى، في حين أن (م س) كلها قصيرة: مثال على ذلك: «.. أخرج الخطبة من جيب معطفه الرمادي، ألقى عليها نظرته الأخيرة وهو يلوك المفاهيم الأساسية التي تتضمنها: ضرب القوت اليومي... الرشوة... العطالة... صندوق النقد الدولي... الجراد... الجفاف... حقوق الإنسان... الحكومة... الديمقراطية... اللون... اللون... اللون... رغبة في التقيؤ تستحوذ على مفاصل أمعائه وهو يصعد إلى المنصة..» (ص:37).
تعود هذه الظاهرة أساسا إلى ما يسمى بالاختزال واختزال اللغة أو الاقتصاد فيها إلى أبسط إمكانياتها التعبيرية ومكوناتها اللسانية إلى مجرد علاقات تركيبية بين الكلمات وبين الجمل القصيرة (النظم)... كل هذه الأشياء مجتمعة تؤدي إلى تقليص المسافة بين التذكر والإحساس، والحد من حرية "وجهة النظر" ومن التبئير (focalisation).
وبالتالي فالسيرورة الذهنية التي تعبر عن هذه المسافةdistance تستطيع عند الإقتضاء توسيع المجال أو ما يُصطلح عليه (créativité du champs sémantique) من الناحية الدلالية والأمثلة على ذلك كثيرة في المجموعة إنْ لم أقل السمة المميزة في البنيات النصية والمحمولات الدلالية للمجموعة مثلا: «تسيل الذكريات... تتناسل... تتقاطع» (ص:11). فالملاحظ هنا أن المحمولات الدلالية في البنية النصية للمتن الحكائي: حضور قوي للمركب الفعلي (تسيل، تتناسل، تتقاطع) من حيث معاني الأبنية فإن (سال: يسيل) يدل على الحركة، في حين أن (تقاطع وتناسل) يدلان على المشاركة، والانتقال من الحركة إلى المشاركة على مستوى موضوع الذكريات كما في النص (ص:11). يشكل محطة سردية هامة، تعيد الاعتبار إلى شيء لا يتحرك وثابت في الذاكرة الجماعية ألا وهو الارتباط بالمكان بالموطن الأصلي بالتراب.
قصة "الخلاص" مثلا: تعد في نظري نموذجا من السيرة الذاتية أو الحكي عن الذات، وهذا طبعا من أبجديات الكتابة القصصية، خاصة في تقنية الإضمار القص بالضمير الجمعي "نا" الدالة على الفاعل. مما يدل على أن المتكلم: السارد حاضر بالقوة وبالفعل في البنية النصية للمحمول الدلالي، ذلك أن الضمير "أنت" يعني "أنا" في محاولة لمخاطبة الذات يقول ملارميه: «je est un autre». كما ألاحظ في القصة نفسها، خلوها من الشخوص الورقية، أو بعبارة أخرى، لا ترقى إلى التقنيات السردية التي في "بتيجة الضاوية" أو "الاستثناء"، مما يحيلها إلى خاطرة لا غير.
أن تترجم المشاعر المحسوس بها، وأن تتوسل باستمرار بهذه اللغة، خاصة حين يقتضي المقام الحكائي نقل إحساس قوي، سواء كان المقام يستدعي اللذة أو الألم، تتحول اللغة في أثناء ذلك إلى ومضات تبرق وتختفي: حالة السكر مثلا في الحوار التالي: « - لابد من الشراب/- كم عندك؟/- لا شيء/- إذن لا خيار غير هي.. كويلا/- هي... لا لا.../- قلت لا خيار/- قلت أمين.» (ص:52). فالبنيات النصية وحتى المحمولات الدلالية في هذا الحوار تعبر عن الخيبة في الأمل، واليأس والبحث عن البديل الأفضل والخروج من اللحظة الحرجة « إذن لا خيار غير هي... كويلا» (ص: 52). المحمول الدلالي هنا ينص على النتيجة التي اِقْتُنِع بها، والبديل الحقيقي للأزمة والواقع الراهن.
البنية النصية الأخرى التي تلائم سابقتها تباعا هي: موضوعة الجوع: «الخيبة تحاصرنا.. الجوع يحاصرنا.. العراء يحاصرنا» (ص:52). بإزاء موضوعات: الجوع، السكر والحصار والمطاردة.. هناك مشهد، لأنها حالات تعبر عن الألم، لكنه ألم لم يُوَلّهِ السارد الأهمية التي يستحقها الوصف يقول رشيد بنحدو: «فالاقتصاد في اللغة يعكس ضبابية إحساس الكائن المكلوم حتى في لا وعيه، فتتدفق حينئذ أحاسيس جد غامضة سرعان ما تختفي حين يحاول الوعي تحديدها وتوضيحها». وهذه هي النتيجة التي اختارها السارد لقصة "الخلاص".
ورغم وجود الاقتصاد الذي حول اللغة إلى مجرد أسلوب تلغرافي، لكنه أبلغ تعبيرا عن الواقع من لغة السرد في الممارسة الحكائية التقليدية. وهذا ما جعل مجموعة "سرى من رأى" المحاولة الخجولة التي تستحي كثيرا لأنها هضمت إواليات ومبادئ مختبر السرديات الحداثي، وتمثلته أحسن تمثل.
هناك تركيز على مختلف الجوانب التي تهم مدينة سيدي قاسم في قصة "الاستثناء" هذه المدينة كغيرها من المدن الهامشية من حيث فضاؤها الزماني والمكاني، ومن حيث الطبقات والشرائح الاجتماعية التي تشكل العمود الفقري للمدينة، وهي أنماط بشرية تتفاعل في ما بينها، لتشكل لحظة مغرب ما بعد الاستقلال مغرب الاستعمار الجديد.
فصورة الحي أو المدينة، وأحرى العلاقات الاجتماعية كانت في زمن مضمن: علاقات ودية تراحمية ومثالية ذات رباط روحي مقدس في الأفراح والأحزان في الشدائد والكوارث التي نقشها الدهر على هامات الإنسان المغربي حتى حين وهي علاقات لا تطبعها اعتبارات مادية إذا كان "الجيران" مثلا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو أو جار، هب كل الجيران وآزروه وشدوا عضده حتى تمر الأزمة والمحمولات الدلالية هنا في "الاستثناء" تدل على فتور تلك العلاقة وتشيُّع ميكانيزماتها، محمولات دلالية تدل على الخنوع والذل والهوان وهي مقومات تدل أيضا على موت الإنسان المغربي... تلك كانت وضعية المغرب منذ عهد الاستعمار الجديد قمع السلطة لمختلف الفئات الشعبية، استنزاف وقهر للعقول الطموحة، اهتزاز في القيم والمفاهيم المتجذرة في الذاكرة والتاريخ المغربيين. في النص مثلا نقرأ: « كم من الحكايا عرفت تشكيلها، غرابة أو تنكيثا، دراما أو مأساة، بين أسوار هذا الحي المتعرض للهدم الآن... وكم من المناسبات التي جمعت أو فرقت صاحبت أو قاطعت، قدمت أو أخرت... ها الأعياد... ها الانتخابات... ها الأعراس... لكن حدثا كهذا لم يعرفه الحي، لأنه الحدث الذي يضع الحد لهذا الاندماج العائلي، ويدشن عهد التمزق والتفكك...» (ص:13).
في "الاستثناء" حضور للمكان للمدينة والحي، والملاحظ غياب المحددات لأسماء المعالم حتى تظهر المدينة أو الحي (المكان) بالشكل المؤثر والانفعالي، فدلالة الأسماء العلَميّة (العلم) لها دلالة خاصة لا تقبل الاحتمال ودلالة أسماء الأعلام سواء تعلق الأمر بالمكان أو الأشخاص أو الأضرحة.. أسماء القناطر والأودية.. تخول للعمل أو المتن الحكائي سمته المحلية الوطنية. وحتى إذا وقع عليها ما وقع من عوادي الدهر فإن ذكر الأسماء كما هي كما استقرت في الذاكرة الشعبية. يعود بالذاكرة ذاكرة القارئ المغربي خاصة والعربي عامة إلى الأطلال والنتوءات وعوادي الدهر على الأمكنة والقناطر وحتى مدفن سيدي قاسم بوعسرية مكانه وموقعه من المدينة، ذكر أسماء الشوارع مثلا.. وكيف كانت هذه الأطلال قبل الاستعمار وكيف أصبحت بعده؟ وكيف تُعامله الذاكرة الشعبية في ظل الاستعمار الجديد؟ «تسيل الذكريات... تتناسل... تتقاطع... شيء واحد يجمع حالهم: فقدانهم لقطعة من ماضيهم» (ص:11).
يتجلى حضور المكان أيضا في قصة "ثقب في قعر حلم" بإسناده إلى التذكر، في شخص مسرور يقول السارد بهذا الصدد: «تذكر قول جدته بأن هذا الفج المار بين الجبلين شقة الوالي الصالح سيدي قاسم بوعسرية لما كان قادما إلى هذا البلد الأمين، فضرب بعصاه على ظهر الجبل الذي اعترض طريقه لينشطر نصفين» ص:57. هذا المقطع السردي بما فيه من لغة ترميزية وإيحاء له بعد أسطوري ماضوي في الذاكرة الشعبية بين جيلين: جيل الجدة/جيل مسرور، الفتى الحالم الذي أحيل على العطالة لينغمس في بحبوحة الفراغ والانتظار. انتظار الآتي المجهول.
وعلى أي تبقى "ثقب في قعر حلم" النموذج المعيار للمجموعة وذلك نظرا لتوافرها على الشخوص أولا: العم مسعود، حميد، مسرور، سلوى. ومما يزكي هذه المعيارية الحضور المكثف للأنثى/الحلم ومحمولة الدلالي مُقعر كما في العنوان، بالإضافة إلى ذلك، أن العنوان كغيره من عناوين المجموعة يوحي إلى وضعية الأنثى في منطقة الغرب، وهي وضعية تتأرجح بين الحضور والغياب وبين السطوة والدلال، وأجمل مقطع يعبر عن ذلك في الحوار الرومانسي الذي دار بين الذكر/الأنثى، مسرور/سلوى: «عرفها وقال: أنت، قالت: أنت، قال: أنت نورس وحيد في شاطئ بعيد، يلتقط ذرات الندى ويهدي الموج كي يميل عن الصخر وهو لا يخشاه، ويهوي صمت الكون إلا صخب الموج والبحر مأواه ومرعاه، قالت: أنت من ألهبه الشوق، وأسعده الحزن ويقطن منفاه، أنت بدر لا يهدأ إلا بتوزيع نوره جاد في مسعاه...» (ص:59).
حضور ثان لسلوى في قصة "بتيجة الضاوية" وهي اسم علم مؤنث أسند إلى جنس غير جنسه، وقد كتب هذا الاسم على علب الشمع التي تباع في السوق إلى جانب أسماء أخرى، ماذا يعني ذلك يا ترى؟ في الواقع هذا الاطراد يعد من جماليات الأقصوصة، إذ ليس ثمة استقلال حتى النسبي منه بين القصة والأخرى، يتجلى ذلك في: « - ولكن لماذا كتبت عليه هذا الاسم؟/- هذا إسمي./ولكن سلوى اسم لأنثى!» (ص:65). وترك الأمر هكذا غير واضح، وهذا المقطع بالذات يجسم الخصائص الجديدة في الكتابة القصصية الحديثة.
ميزة أخرى تغلب على هذه المجموعة القصصية وهي: الانقطاع عن السرد بين الفينة والأخرى، يتلوه تدخل تقريري من المؤلف وليس من السارد: « يسرني أن أزف بقايا متعة متدلية من شرفة الفجر على مسامعكم ما دمتم لم تتوقفوا عن فضولكم فتابعوا لعلكم تجدون ما يشبع هذه الفضول... أريد أن أتسلل عبر خفايا كم إلى ما تتوقعونه سرا لا يجرؤ أحد على نبشه...أريد أن أقهر رغبة استطلاعكم... وبسرعة» (ص:59).
مثل هذا التدخل يثير في القارئ تساؤلا محرجا: ما الذي أدخل صوت الراوي هذا المدخل، وفي هذه اللحظة بالذات؟ من حقنا كقراء أن لا يثير الراوي أو السارد بَلْهَ المؤلف غضبنا لحظة إتحادنا وحلولنا في النص أو المتن الحكائي. وكأنه في هذا المقطع يسحب البساط من تحت أرجُلنا، وهو قاعد هناك فوق الربوة عاليا متجبرا يريد استفزازنا، أو أن يحيق بنا في الهاوية: هاوية الحكاية. هل هو (المقطع) توسيع لدائرة السرد؟ أم إبداعية تخدم ما اصطلح عليه سابقا بتوسيع المحمولات الدلالية؟ إن هذا الانقطاع في الصوت أو في السرد ليس عيبا أكثر من أن له تبريرا وتسويغا واحدا: أن السارد صانع الرؤى يعيد النظر في التراكم السردي السابق، ولم يستطع الصمود أمام ما يزدحم في مخيلته من رؤى وعوالم، فألقى أوراقه كاملة باعترافه، وبَوْحِه، إنه (المقطع) يشكل موتا للسرد وانتحارا للسارد بمعرفتنا للنية التي يبيتها لنا، وفي هذا الانتحار والموت إعلان عن ولادة جديدة للقارئ، ولادة من جديد بعد قهر وسلطة السارد، لتعيد للقارئ الحياة من جديد، وتسري الدماء في عروقه من أثر النعمة التي يسري مفعولها في الجسم «أي نعمة أصابت مسرور هذا الصباح؟ ها جسمه يستحم بدفء لم ينعم به منذ مدة» (ص:59).
يبدو أن هذه العودة بعد الخلل المفاجئ، تؤكد من جهة لحظة تأزم في شخصية مسرور أو الراوي الذي يسند الأفعال الكلامية والسلوكات والانفعالات.. ومن جهة أخرى تؤكد عودة المنسي والماضي الذي تعجز فيه ذاكرة الراوي ممارسة الحكي. ترى هل هذا المقطع يشكل "لحظة انتظار" أم تقنية سردية للبحث عن نفس جديد للحكي. ومما يدل على التأزم والمعاناة من الماضي: «حمل مسرور يأسه وانصرف لكنه احتفظ بحبه لها» (ص:60).
انقطاع الحكي مرة أخرى في (ص:64) و(ص:65)، ودخول النظرية والإيهام والتساؤل المرير حول الإشكال القائم بين النظرية السردية نفسها وفي وجهة النظر كذلك والصيغة السردية أيضا. وهذه المرة تنقطع الأسلاك السردية لا لتحثنا على بعد نفسي يعاني منه السارد فقط، بل لتزكية الطرح القائم بين الممارسة والتنظير نقرأ ما يلي: «.. ما الفرق بين الرغبة في الكتابة والاحساس بالغثيان؟ لماذا تستفزني هذه الكتابة حتى لا أجرؤ على إبعاد كل ما يرتبط بها بعلاقة ما... الأقلام... الورق... الليل... أضحك حتى لأظنني مخبولا، وفي هذا الليل... ضجيج مذهل ودوار في الرأس يتلوه انفجار قوي... سارت الشظايا بدهاء متقن في اتجاه لا معلوم، لكنه غير ضال، فكانت تتشكل إرادة لا مرئية... تشكلت الحكاية ضمن دائرة السرد الحريص على توازنه... الشظايا تتكور بلهيبها وهي سارية لا يضنيها عن إصرارها ضعف..» (ص ص: 64 – 65).
وبناء عليه يأتي هذا المقطع للتأكيد على فقدان التوازن في الحكي بين ماضي موسم الولي الصالح "سيدي قاسم بوعسرية" والسوق التي تعمر يوم الأحد، وبين حاضر مشحون مليء بالذكريات والطموحات، إلا أن العودة إلى الذاكرة، والمسؤولية الكبرى التي وُكلت إليها سرعان ما تزداد تلك الذاكرة والمخيلة شحذا إلى الماضي القريب/البعيد بكل تفاصيله وجزئياته، وهي ذكريات لاشك تعود إلى زمن الطفولة والبراءة إلى زمن كان ينعدم فيه التأويل أو هو التأويل في تشكلاته وبداياته الأولى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.