على اثر الاحتجاجات و الإضرابات التي يخوضها طلبة كلية الطب رفضا للخدمة الصحية الوطنية لا نملك بعد الصمت والاندهاش والإحساس بالصدمة أمام هذه السلوكات سوى التساؤل حول مشروعية هذه المواقف والأضرار التي تلحقها بحق العديد من المغاربة في الصحة. لا يخفى علينا جميعا، مواطنات و مواطنين أن هناك علاقة جدلية وطيدة بين الصحة وكل العناصر المكونة للمجتمع لأن الحق في الصحة: لا ينحصر فقط في الحصول على الرعاية الصحية المناسبة وفي الوقت المحدد، بل يشمل أيضاً المقومات الأساسية للصحة مثل الحصول على الماء النقي الصالح للشرب والصرف الصحي الكافي، الإمداد الكافي بالطعام الصالح، التغذية المأمونة، والإسكان الآمن؛ يشمل أيضا الشروط المهنية والبيئية الصحية والحصول على التثقيف الصحي الذي يغطي عدة مواضيع بما فيها الصحة الإنجابية والجنسية. كما يجب أن تكون المقومات الأساسية والمرافق، والسلع والخدمات متوفرة، ويمكن الوصول إليها ومقبولة وذات نوعية جيدة. لذلك يطمح كل إنسان لأن يكون في صحة جيدة باعتبارها ضرورية لمزاولته لجميع الأنشطة الإنتاجية وغيرها. هذا الأمر يلزم قطاع الصحة بأن يكون قطاعا حيويا واستراتيجيا في مكافحة المرض وما ينجم عنه. في هذا الصدد، عمل قطاع الصحة بالمغرب على إنجاز خطط وبرامج غايتها تحسين الأداء وخدمة المريض ورفع مستوى كافة المهنيين الصحيين والعاملين في المجال الصحي، مما مكن من السيطرة والتحكم في العديد من الأمراض والاكتشاف المبكر لها. ففي السنوات القليلة الماضية اعتمدت الوزارة خطة إستراتيجية صحية شاملة تمتد لسنوات تهدف إلى تقديم خدمات صحية على أعلى مستويات الجودة وفق المعايير العالمية رافعة شعار «المريض أولاً»، الأمثلة على ذلك هي عملية رعاية و مبادرة كرامة المنجزة في إطار المشروع الوطني للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة الذي أسس انطلاقاً من مفهوم العدالة الاجتماعية وبالاسترشاد بالمعايير الوطنية والدولية. هيئة الوزرة البيضاء، مواطنة مشروطة ووطنية بشروط: الممارس في مجال الصحة سواء كان طبيبا أو ممرضا هو شخص يتوجب أن يتشبع بقيم الوطنية والمواطنة، ناهيك عن الضمير المهني والالتزام بتقديم الخدمة الصحية للمواطنين المرضى في حالات السلم والحرب والكوارث والأوبئة ودون تمييز، ذاك الواجب المهني والأخلاقي يعفينا من الحاجة لتذكير الممارس في مجال الصحة بأن عمله المهني هو واجب تجاه المواطنين – خصوصا الفقراء والمهمشين – وتجاه الوطن الذي وفر له سبل التعلم في كليات الطب التي بنيت بفضل عائدات ضرائب المواطنين، ثم التخرج ومزاولة مهنته في المستشفيات العمومية والخاصة. بخلاف ما سلف، اليوم نجد أن هيئة الوزرة البيضاء تتعامل بإجحاف و تضرب بالقيم الأخلاقية والمهنية عرض الحائط حاملة منطق الأنانية الذي مؤداه أنا ومن بعدي الطوفان. تتعامل بتنكر وتجاهل لمبدأ التضامن وتعمل على تقسيم المغرب إلى اثنين: مغرب يوفر الحد الأدنى من الحق في الصحة، مقابل مغرب لا حق فيه للصحة والعلاج لساكنة المناطق النائية و القروية كما لو أن هؤلاء المواطنين يتمتعون بمناعة قوية تجعلهم في غنى تام عن العلاجات والخدمات الصحية. بالرغم من أن هؤلاء يعيشون ظروفا اجتماعية قاهرة و بيئية قاسية قساوة الطبيعة فيها، مما جعل حتى ساكنة بعض المدن بدورها لا تسلم من الحرمان من العلاج كمدن الجهة الشرقية. بناء على ما سلف، وفي ظل النقص الحاد على مستوى الموارد البشرية بقطاع الصحة، ووجود تفاوتات وفوارق بين العالمين القروي والحضري، نتساءل ما مصير صحة المواطن و صحة الوطن في ظل رفض مهنيي الصحة العمل في المناطق القروية النائية؟ الكثير من هؤلاء (أطباء وممرضين) يرغبون في مزاولة المهنة في المدن الكبرى والبقاء قرب عائلتهم و ذويهم والتمتع بجميع الامتيازات وذاك حق غير مطلق لهم خصوصا وأنه يعمق ويكرس سياسة المركزية و التمركز في ظل مغرب جديد قيد البناء هو مغرب الجهوية المتقدمة، وبشكل يناقض أهداف الخريطة الصحية التي عملت الوزارة على إرساءها قصد تطوير السياسة الصحية بالمغرب و ضمان التوزيع العادل للبنيات التحتية من مستشفيات عمومية أو خاصة، وللتجهيزات الطبية الكبرى وللموارد البشرية الصحية بين الجهات والمناطق. على مهنيي الصحة أن يعلموا أنه إضافة إلى التعليم، يشكل قطاع الصحة مجالا حقيقيا لممارسة سياسة القرب بامتياز في القرى والجبال والسهول والتلال بواسطة المستشفيات الميدانية المتنقلة والمروحيات الإسعافيه وغيرها، فلما يجعلون من أنفسهم موظفين ممتازين مقابل رجال ونساء التعليم الذي يقبلون بمصيرهم المهني لسنوات طوال في البوادي دون أن يتذكروا البيت الشعري القائل: قم للمعلم وفيه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا من يرفض التعاون من أجل إعمال الحق لا مشروعية له في المطالبة بالحق: في هذا الصدد جاءت خطوة الوزارة المسماة «الخدمة الصحية الوطنية» ومشروع القانون المنظم لها والتي تم رفضها بمبررات تم دحضها من طرف الوزير الوردي الذي أكد أن المعنيين سيتمتعون بكل الضمانات التي تحفظ كرامتهم وممارستهم لواجبهم المهني في إطار الشروط الدنيا لذلك، وعليه فإنهم: سيحصلون على الأجرة الكاملة للطبيب أو الممرض، هذا إلى جانب التعويض عن الخدمة في المناطق النائية؛ سيستفيدون من التغطية الصحية و التسجيل في الاختصاص؛ سيستفيدون من سنتين إضافيتين من أقدمية مزاولة المهنة؛ سيحصلون على وسائل العمل الضرورية بعدما خصصت الوزارة ميزانية خاصة للتجهيز. رغم هذه الحزمة المصاحبة للخطوة، واصل الطلبة الأطباء رفضهم للخدمة الصحية الوطنية بشكل مناقض لكل منطق، و يفاجئ العديد من المغاربة الذين كانوا يقبلون بالانخراط في الخدمة المدنية مقابل أجر بسيط ورمزي وكذلك في الخدمة العسكرية. هذا الرفض يظهر أن جزءا من الجسم الطبي المغربي أصبح يعيش بعيدا عن قيم الواجب والتضامن، ويتهرب من ثقافة البذل والتطوع للنهوض بالصحة والسلامة و تقديم الخدمات الجليلة للوطن والمواطنين. ما يجب أن يعلمه من يرفض الخدمة الصحية الوطنية بمبرر الدفاع عن كرامتهم وحقوقهم أن موقفهم هو بمثابة مطالبة للدولة المغربية بعدم الوفاء بالتزامها تجاه العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وأساسا الالتزام الثالث المتمثل في النهوض بالحقوق الذي يلزمها بالقيام بما يلي: عدم القيام بأي إجراءات تمييزية بين مختلف المجموعات البشرية المعنية؛ اتخاذ إجراءات ملموسة موجهة لتحقيق الحقوق المعنية بواسطة استراتيجيات وبرامج محددة؛ التتبع الدوري لدرجة إعمال الحقوق وذلك من خلال السهر على توفير الوسائل الكفيلة بجبر الضرر في حالة خرق تلك الحقوق. كما عليهم أن يعلموا أن رفضهم هو مناقض أيضا لالتزامات الأفراد تجاه نفس الحقوق والتي تلزمهم بالتعاون مع الدولة في مجال النهوض بحقوق الإنسان عامة، ويكفينا الاسترشاد بالاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي تلزم الأفراد مهما كان وضعهم الاجتماعي والمهني والدول بالتعاون للقضاء على العوائق التي تحول دون تطور ونمو الطفل. شكاوي وأسئلة الفلاح المغربي الفصيح: أمام هذا التمنع والرفض، نتساءل اليوم ونحن قعود في دواويرنا وقصورنا وقلاعنا النائية: هل سنصير في وضعية المنكوبين والرهائن وعلينا انتظار منة من بعض مهنيي الصحة كي نستفيد من الأدوية التي ينقضي تاريخ صلاحيتها وتلقى في مطارح النفايات؟ أم ننتظر أوامر عسكرية كما يحصل في حالات الحرب كي يحضر الأطباء كما لو أنهم ذاهبون للقتال في جبهات مدسوسة بالألغام؟ هل ننتظر عطفهم كي نستخدم بطاقة الراميد كلما ألم بنا مرض ما؟ قبل هذا وذاك، هل ننتظر أن يتنازل من يرتدون الوزرة البيضاء قليلا ليحضروا حيث نحن كي يستمعوا لنا ونحن نشكو لهم مرضنا؟ من سيتكرم منهم للوصول إلى منطقتنا ل ..... أم لابد من أن نتنقل نحن على ظهور الحمير والبغال والجمال وفوق النعوش كي نتخلص من أمراضنا وآلامنا في حضرة ذوي البزات البيضاء في الحواضر الكبرى حيث هم؟ سنبقى نحن هنا على أعلى قمة القلعة ننتظر من يعالجنا و يعافينا و يشفينا، فهل من سيارة إسعاف تصل إلينا؟ بعدما فضلوا بيع المناديل و الجرائد عند إشارات المرور بالوزرة البيضاء كبديل لخطوة الوزارة وتقديم العلاج للمواطنات و المواطنين، لا نملك إلا أن نقول: إن بعض أطباءنا مسئولون خارج الزمان والمكان، مسافرون تاهوا عن الطريق وضيعوا حقائبهم و متاعهم و اتلفوا مسارهم !! أطباء ضيعوا قيمهم .. وسيضيعون أسماءهم وانتماءهم للوطن. يقتلون الإحساس بالأمان ويضيعوا أنبل الخصال. يا وطني .. لكل إنسان له حماية إلا الإنسان الدي يحترف الكرامة فهو يموت خارج الأوطان.. لماذا صرنا عندما نبحث عن الوطنية والمواطنة كمن يطارد خيط دخان؟ لما صار الضمير المهني دون وطن وليس له عنوان؟ رغم كل ذلك، نحن هنا قاعدون سنرفع باسم الوطنية حناجرنا و خناجرنا و نردد لك الله يا وطني..... !!! سلا، في 29 شتنبر 2015 * عضو اللجنة المركزية