(مجلة «الموقف» نموذجا) ظهرت الصحافة بالمغرب في فترة مبكرة بالمقارنة مع مجموعة من الدول العربية. ورغم كون معظم الصحف التي صدرت في هذه الفترة كانت باللغات الأجنبية لطابع الصراع الاستعماري حول المنطقة، بين مجموعة من الدول الأوربية، وبخاصة فرنسا وإسبانيا وإنجلترا؛ فقسمت البلاد تبعا لذلك إلى مناطق نفوذ لغوية وثقافية، تمهيدا للاحتلال العسكري المباشر، فإن المخزن المغربي حاول، منذ عهد الحسن الأول (1290ه/ 1873م-1311ه/ 1894م)، الدفاع عن البلاد ضد هجمات هذه الصحف؛ فأنشأ مكتبا للصحافة كانت مهامّه في البداية تقتصر على تتبع مقالات هذه الصحف، ثم الرد عليها فيما بعد؛ لأنها كانت تسعى، بالدرجة الأولى، إلى زعزعة استقرار البلاد لتبرير أي تدخل. وفي سنة 1306ه/ 1889م، ظهرت أول جريدة وطنية مكتوبة باللغة العربية أسسها مغاربة، وهي "النفحات الزكية في الأخبار المغربية" .. هذا بالنسبة للجرائد، أما المجلات فقد تأخر ظهورها نسبيا؛ إذ يكاد يتفق معظم المهتمين على سنة 1932م، في حين تتم الإشارة أحيانا إلى مجلة "سنان القلم" التي ظهرت عام 1907م. كما يشير فهرس المكتبة الوطنية إلى مجلة "الاتحاد" التي ظهرت بتطوان عام 1928م. وتوالى بعد ذلك صدور مجموعة من المجلات، التي تزايدت أعدادها مع سنوات السبعين والثمانين بصفة خاصة، مع الإشارة إلى كون جلها يغلب عليها الطابع الثقافي. إلا أن الملاحظ على هذه المجلات انقطاعها عن الصدور، بل إن منها ما لم تعمر إلا لفترة زمنية قصيرة لا تتجاوز أحيانا السنتين، زيادة على عدم انتظام أعدادها. والمتصفح للدليل الذي أصدرته مديرية الكتاب والخزانات والمحفوظات التابعة لوزارة الثقافة، بالموازاة مع المعرض الدولي للكتاب (فبراير 2014م)، لا شك في أنه سيصاب بالدهشة أمام العدد الكبير من هذه المجلات التي لم تعد تصدر، رغم ما قدمته من خدمات للثقافة المغربية في مرحلة من مراحل تاريخها! ومن بين المجلات التي يمكن الإشارة إليها، في هذا الصدد، مجلة "الموقف"، التي رأى أول عددٍ منها النور في رجب 1407ه، الموافق لمارس 1987م. أسسها بالرباط الدكتور عبد العلي الودغيري، وساعده في تحريرها أبو يوسف طه ونجيب خداري. صدر منها أربعة عشر عددا كان آخرها العدد الرابع عشر (1992). وفي التقديم الذي دبّج به العدد الأول، أكد أصحابها على الطابع الثقافي للمجلة لأسباب ومبررات؛ منها الفراغ الذي تعاني منه الساحة الثقافية، رغم نمو الحركة الثقافية ونشاط قطاع الطبع والنشر، والحاجة الماسة إلى مجلات تجمع بين الجدّية، من جهة، وبين التكامل الثقافي والمعرفي والإبداعي، من جهة أخرى، وبخاصة في ظل توسع قاعدة المثقفين بسبب التحولات الثقافية التي يعرفها المغرب؛ هذه التحولات التي يجب أن تكون مشروطة بحرية الفكر والتعبير لكي تنمو في مناخ سليم؛ لذا جعلت المجلة من مبررات وجودها، أيضا، التمرد على الرأي الواحد، وفسح المجال أمام الرأي الآخر، والوقوف في وجه الآراء التعسفية والأحكام الجاهزة والوصاية الفكرية، لتكون في صف المناضلين من أجل حرية البلد في إرادته وقراره واختياره، ووحدته وتماسكه وانسجام تفكيره وتشبعه بالعروبة لغة وتعليما، والدين الإسلامي دينا وثقافة وسلوكا وحضارة. وتولي المجلة الأسبقية، بحسب التقديم دائما، فيما يقدم لها من مواد؛ مقالات وأبحاث وإبداعات، لما هو هادف يجعل من نفسه وسيلة لتحقيق مُثل الأمة وقيمها بغاية التطوير والتحديث والتقوية والدعم ومدافعة الجهل والفقر والاستلاب. تضمن العدد الأول، بالإضافة إلى ما سبق، مجموعة من الموادّ وُزعت على الأبواب الآتية: - دراسات؛ وتضمنت ثماني مقالات، أولاها: "الترجمة الشخصية التحليلية في الأدب والسياسة"، للأستاذ عبد الكريم غلاب، تتبَّع فيها تطور هذا الفن من الكتابة عبر التاريخ عند الأوربيين والعرب على السواء، مركزا على بعض النماذج من الذين برزوا في تحليل الشخصيات الأدبية أو ما أسْماه الأستاذ عبد الكريم غلاب ب"الترجمة التحليلية" بخاصة، ومنهم طه حسين وعباس محمود العقاد اللذان تطورت عندهما هذه الكتابة من المقالة إلى الكتاب؛ فكتب طه حسين عن القدماء من الشعراء؛ من مثل: أبي نواس، ووالبة بن الحباب، وبشار بن برد، وقيس بن الملوح، وغيرهم؛ فكانت مقالاته استعراضا لأدبهم أكثر منها ترجمة لحياتهم، وقد جمعت هذه المقالات في كتاب "حديث الأربعاء"، ثم كتب فيما بعد عن أبي العلاء المعري، والمتنبي. أما العقاد، فقد ترجم لسياسيين في مؤلفيْه؛ سعد زغلول وهتلر، كما ترجم لبعض الأدباء والفلاسفة في كتاباته، ومنهم ابن الرومي وابن سينا، وترجم لمجموعة من الشخصيات المعروفة في التاريخ الإسلامي في مجموعة من كتبه. ويلي هذا المقال "إحياء العلوم الإسلامية" لمحمد بن البشير، الذي خصّصه صاحبه للدفاع عن العلوم الإسلامية؛ بسبب عجز المسؤولين في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن حل الأزمات الناتجة عن مجموعة من الظواهر السلبية، التي أفرزها الفشل الفكري والحضاري الراهن؛ ما جعل مفكرين متخصصين يتجهون إلى البحث عن بدائل ممكنة، ومنها الاهتمام بالأديان، وبالإسلام خاصة؛ لبساطة عقيدته ووضوحها، وشمولية نظرته إلى الوجود بجميع عناصره، ورؤيته الواقعية إلى الإنسان... وعلى هذا الأساس، وجب على المسلمين الانقضاض على هذه الفرصة للقيام بواجبهم الحضاري، وبخاصة ما يتعلق بالجانب العلمي والفكري؛ لأن الفكر الإسلامي قدم الكثير في مجالات الإنسان والنفس والاجتماع والاقتصاد، وكل ذلك كان نابعا من معينين؛ الخطاب الإلهي واجتهادات العلماء والمفكرين، وتشكل هذه المجهودات، رغم ارتباطها بعصر أولئك العلماء، نماذج يجوز أن تصلح لهذا العصر. ويستشهد الدارس بوثيقة نشرها المرحوم إسماعيل الفاروقي باسم المعهد العالمي للفكر الإسلامي. ويؤكد على ضرورة الاجتهاد في هذه العلوم انطلاقا من الكتاب والسنة، ومن روح الشريعة ومقاصدها. وفي مقال "آية الفكر وكبرياء النظر"، يشير للدكتور أحمد العلوي في مستهله إلى تركيزه على أربع نقط، هي: حدود الدرس النحوي العربي في إطار المشهد العام في دولة الإسلام، وشكل النحو السيبويهي والنموذج الطبيعي، والنظرية العاملية السيبويهية، وأخيرا متابعة المشروع السيبويهي واقتراح أسس مفصلة لنظرية عاملية يرجى لها أن تكون جزءا من نحو متكامل للغة العربية. وانطلق الدكتور عبد العلي الودغيري، في "المعجم العربي بين التطور والجمود"، من مسلمة كون اللغة الإنسانية تخضع، عبر تاريخها، إلى قانون التطور، وهو قانون حتمي؛ فلا يمكن تصور مجتمع يتطور وينمو ويتحرك بلغة جامدة، والتطور اللغوي لا يقتصر على الوحدات المعجمية فقط، بل يحدث أيضا في مستوى الصوت والنحو. وقد بينت اللسانيات البنيوية كيف أن هذه الوحدات لا تكون خصائص لسان ما أو هويته؛ لأنها تتغير بلا انقطاع، وإنما الذي يمنح للغة هويتها هو البنية أو النظام. ويستدل الدارس لمعرفة مقدار التطور السريع الذي يطرأ على المفردات بمقارنة أجراها بعض الباحثين بين طبعتين لأحد القواميس الفرنسية، لا يفصل بينهما إلا أحد عشر عاما. ومن وسائل تطور المعجم الاشتقاق والاقتراض والترجمة والارتجال وغيرها. وينتقل الدارس إلى مثال آخر، وهو مجال الدراسة، هو الانقلاب الذي عرفه المجتمع العربي بظهور الإسلام، والذي مس جميع مظاهر الحياة، ومنها اللغة، وما أحدثه القرآن الكريم من تحوير عميق في اللغة حتى وقف فصحاء العرب أمامه مشدوهين. ومن الأمثلة اللصيقة بالسابق التطور الذي عرفته العربية بعد اتساع رقعة الإسلام، والذي كان دافعا لأسلافنا إلى قيام حركة الجمع والتدوين والتقعيد ووضع القواميس المختلفة، والتي بدورها لم تمنع عن اللغة العربية استقبال الدخيل، وظهور ألفاظ لم تكن متداولة؛ فظهرت قواميس تثور على سابقاتها، ومنها "القاموس المحيط"، الذي تعرض للنقد بسبب ما كان يسمى بالمحدث والمولد والمعرب من الألفاظ. وفي عرض الاستعمالات المتعددة للمنهج، في الدراسات الأدبية الحديثة، حاول الدكتور أحمد الطريسي، في مقاله "التصور المنهجي والقواعد"، الإجابة عن مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالمنهج، والقواعد العامة المستخلصة من تطبيق المناهج، والتي يجب أن ترتبط ببُعدين: الظاهرة الأدبية المدروسة، ومدى ارتباطها بجذور شجرة الأدب والفن. ويخلص، في نهاية موضوعه، إلى أن القواعد والضوابط، في الآثار الأدبية، لا تتجدد إلا مع الصيغ الكلامية التي بلغت مستوى راقيا في الإدراك؛ أي مستوى الرؤيا، ليجد الدارس نفسه أمام قواعد وضوابط جديدة. أما الدكتور سعيد علوش، فاستهل موضوعه حول "الأدب السوسي بين الأنواع الصغرى والآداب الكبرى" بمجموعة من الثنائيات التي تحكمت في اهتمام المغاربة عامةً، والسوسيين خاصةً، بالكتابة عن أدبهم المحلي، أو ما سمي ب"أدب الأقاليم"، والتأريخ له، مركزا على أعمال العلامة محمد المختار السوسي، وما قدمه من إسهامات بدافع إثبات الهوية. ويميز عندهم بين الأنواع الأدبية الكبرى، ومنها تاريخ الأدب، والأنواع الأدبية الصغرى، ومنها الترسل والإخوانيات والبيوغرافيات وغيرها. وقسم الدكتور علال الغازي رحمه الله دراسته حول "نظرية اللفظ والمعنى في توجيه علم الأساليب عند السجلماسي" إلى أربعة محاور؛ بحيث خصص الأول للتصور والدلالة في ثنائية اللفظ والمعنى، والثاني للنظرية الصناعية في خدمة اللفظ والمعنى عند السجلماسي، وخص الثالث بمظاهر من علم الأساليب في هذه النظرية، والرابع بنظرية الإعجاز وثنائية اللفظ والمعنى. وخُتِمَ هذا الباب بدراسة الدكتور أحمد يزن المعنونة ب"موقف حركة التجديد في مصر من موسيقى الشعر"، استعرض فيها أهم حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، مبتدئا بجهود مدرسة الديوان مع العقاد وشكري، مرورا بتيار التجديد مع طه حسين وأحمد أمين، وانتهاء بمدرسة أبولو، وبخاصة عند أبي شادي، الذي دافع، في كثير من مقالاته ومقدمات دواوينه، عن الشعر المرسل. وفي باب "نصوص إبداعية"، نقرأ نصا نثريا لمحمد الصباغ، ونصين شعريين لكل من حسن الأمراني تحت عنوان "الموقف"، وعزيز الشبيهي تحت عنوان "رعشة"، وقصة قصيرة للأستاذ أبي يوسف طه بعنوان "الجثة أو القتل المتبادَل". وفي باب وُسم ب"إضاءة" تضمن العدد بيانا لمثقفي المغرب حول سياسة التعليم والغزو الثقافي واللغوي. بالإضافة إلى باب "وثائق" احتوى على مجموعة من وثائق "من مكتب المغرب العربي بالقاهرة". وباب "آفاق" تضمن مقالا لفاطمة حمزة الراضي حول جامعة بغداد ونشأتها وتطورها. ثم "متابعات"، وقد أفرِدَ للتعريف بمجموعة من الإصدارات الحديثة (وقتئذٍ) داخل المغرب وخارجه.