الإرهاب الفكري.. ظاهرة موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم نجيب محفوظ..الأديب الذي حاول التكفيريون اغتياله ظاهرة الإرهاب الفكري موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم. وإذا كانت العديد من الشعوب قد قطعت مع هذه الظاهرة المتوحشة لإيمانها بضرورة التعايش بين أطياف المجتمع الواحد، مهما اختلفوا فكريا وإيديولوجيا وسياسيا، بترسيخها لقيم الديمقراطية التي وحدها تتيح إمكانية التعايش هذه، فإن مجتمعاتنا العربية ما زالت ترزح تحت نير هذه الظاهرة التي باتت تستفحل ويتصاعد منسوب ضحاياها، إذ مازال هناك دعاة امتلاك الحقيقة في الفكر وفي السياسة وفي الدين، وهؤلاء بالضبط هم من ينظرون إلى خصومهم المختلفين على أنهم أعداء، ويوجبون، بالتالي، مضايقتهم أو تصفيتهم الجسدية. وفي تاريخنا الحديث والمعاصر ما ينم عن أن هذه الظاهرة ما تزال في استفحال، وأن دعاة امتلاك الحقيقة ومحتكريها في تصاعد حتى بات الاختلاف عن أو مع هؤلاء الدعاة أمرا محرما وتبعاته خطيرة تصل إلى حدود التكفير الذي تستتبعه إقامة حد القتل. إن قوائم الذين قضوا اغتيالا بسبب أفكارهم كثيرة، وقوائم المحكوم عليهم بالقتل مع وقف التنفيذ كثيرة هي الأخرى. وحسب وقائع الاغتيال التي كنا شهودا عليها في وقتنا الحاضر، أو تلك التي أرخت لها كتب التاريخ، تظل الفئة المستهدفة من عمليات التصفية الجسدية هي تلك التي آثرت أن تجدد في طرق التفكير وأعملت العقل من أجل فهم جديد لعناصر هويتنا بما في ذلك عنصر الدين الذي حرروه من إسقاطات المقاربات المتحجرة، وفتحوا بذلك بابا جديدا للاجتهاد، يتيح لنا استيعاب ماضينا وحاضرنا بشكل أفضل، كما يتيح لنا استشراف مستقبلنا... نأتي في هذه السلسة الرمضانية على استذكار بعض من هؤلاء ممن أصابهم سلاح الجهل في مقتل. نستذكرهم اليوم، رفقة قرائنا الكرام، اعترافا لهم بانتصارهم لقيمة العقل كضرورة لا محيد عنها لبناء المجتمعات الحديثة. نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911 - 30 غشت 2006) روائي مصري، هو أول عربي حائز على جائزة نوبل في الأدب. كتب نجيب محفوظ منذ بداية الأربعينيات واستمر حتى 2004. تدور أحداث جميع رواياته في مصر، وتظهر فيها ثيمة متكررة هي الحارة التي تعادل العالم. من أشهر أعماله الثلاثية وأولاد حارتنا التي مُنعت من النشر في مصر منذ صدورها وحتى وقت قريب. بينما يُصنف أديب محفوظ باعتباره أدباً واقعياً، فإن مواضيع وجودية تظهر فيه. محفوظ أكثر أديبٍ عربي حولت أعماله إلى السينما والتلفزيون. سُمي نجيب محفوظ باسمٍ مركب تقديراً من والده عبد العزيز إبراهيم للطبيب أبوعوف نجيب باشا محفوظ الذي أشرف على ولادته التي كانت متعسرة. حياته ونشأته ولد نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا في حي الجمالية بالقاهرة. كان نجيب محفوظ أصغر إخوته، كان عمره 7 أعوامٍ حين قامت ثورة 1919 التي أثرت فيه وتذكرها فيما بعد في بين القصرين أول أجزاء ثلاثيته. التحق بجامعة القاهرة في 1930 وحصل على ليسانس الفلسفة، شرع بعدها في إعداد رسالة الماجستير عن الجمال في الفلسفة الإسلامية ثم غير رأيه وقرر التركيز على الأدب. انضم إلى السلك الحكومي ليعمل سكرتيراً برلمانياً في وزارة الأوقاف (1938 - 1945)، ثم مديراً لمؤسسة القرض الحسن في الوزارة حتى 1954. وعمل بعدها مديراً لمكتب وزير الإرشاد، ثم انتقل إلى وزارة الثقافة مديراً للرقابة على المصنفات الفنية. وفي 1960 عمل مديراً عاماً لمؤسسة دعم السينما، ثم مستشاراً للمؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتلفزيون. آخر منصبٍ حكومي شغله كان رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما (1966 - 1971)، وتقاعد بعده ليصبح أحد كتاب مؤسسة الأهرام. تزوج نجيب محفوظ في فترة توقفه عن الكتابة بعد ثورة 1952 وأخفى خبر زواجه الذي لم يُعرف إلا بعد عشر سنوات من حدوثه عندما تشاجرت إحدى ابنتيه أم كلثوم وفاطمة مع زميلة لها في المدرسة، فعرف الشاعر صلاح جاهين بالأمر من والد الطالبة، وانتشر الخبر بين المعارف. محاولة اغتياله في 21 سبتمبر 1950 بدأ نشر رواية أولاد حارتنا مسلسلةً في جريدة الأهرام، ثم توقف النشر في 25 ديسمبر من العام نفسه، بسبب اعتراضات هيئات دينية على "تطاوله على الذات الإلهية". لم تُنشر الرواية كاملة في مصر في تلك الفترة، واقتضى الأمر ثمان سنين أخرى حتى تظهر كاملة في طبعة دار الآداب اللبنانية التي طبعتها في بيروت عام 1967. وأعيد نشر أولاد حارتنا في مصر في عام 2006 عن طريق دار الشروق في أكتوبر 1995 طُعن نجيب محفوظ في عنقه على يد شابين قد قررا اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل. اعتداء على أكبر قلم أدبي على الساحة العربية وبخصوص هذه المحاولة الفاشلة ضد هذا الروائي الكبير، أورد الكاتب المصري عاطف بشاى مقالات تحت "عنوان نجيب محفوظ.. والإرهاب" نشر على موقع "دوت مصر"، تناول فيه بعض ما جاء في كتاب "في حضرة نجيب محفوظ" للأستاذ "محمد سلماوي" وهو مؤلف وروائي مصري يسرد بعض ذكرياته التي عايشها مع نجيب محفوظ، والمستمدة من واقع العلاقة الشخصية التي جمعته بأديب نوبل الكبير منذ سبعينيات القرن الماضي حتى وفاته في 31 غشت 2006. يقول "عاطف" في هذا المقال الذي ندرجه تعميما للفائدة، : يوضحً "سلماوي" الفارق بين محاولة اغتيال "نجيب محفوظ" ومحاولة اغتيال الكاتب الصحفي الكبير "مكرم محمد أحمد" الفاشلتين وحادثة اغتيال "فرج فودة" (1992)، حيث يقول: "إن الحالتين السابقتين كانتا ضد صاحب رأي هو في واقع الأمر خصم سياسي صريح.. كان القلم هو السلاح الذي تم إشهاره في وجه التطرف والسلفية والإرهاب.. لقد كان "مكرم محمد أحمد" في طليعة من بادروا بالتصدي للتطرف والإرهاب على صفحات مجلة "المصور"، ودخل مع أصحاب هذا الاتجاه معتركًا سياسيًا سافرًا.. وأن اعتداءهم عليه يدخل مباشرة في باب الاغتيالات السياسية. نفس الشيء يُقال عن اغتيال د.فرج فودة الذي كان خصمًا سياسيًا صريحًا تصدى للاتجاه السلفي المتخلف.. وكان وقت اغتياله قد استكمل جميع إجراءات إنشاء حزب "علماني" جديد يتخذ من مناهضته لهذا الاتجاه برنامجًا سياسيًا لتحركه، أما "نجيب محفوظ" فإن قلمه هو قلم أديب يكتب الرواية.. وهو ليس طرفًا في معركة سياسية يشهر فيها القلم كسلاح.. ولا هو كان يسعى لإقامة حزب سياسي. إن الاعتداء على "نجيب محفوظ" ليس اغتيالاً سياسيًا كالذي عرفه تاريخنا السياسي القديم والحديث.. وإنما هو اعتداء من نوع جديد لم نعرفه من قبل.. إنه اعتداء على أكبر قلم أدبي على الساحة العربية في هذا العصر. هو اعتداء على ضمير أمة استطاع "نجيب محفوظ" أن يجسده في كل ما سطره قلمه المعتدى عليه من أعمال عظيمة رفعت الأدب العربي الحديث إلى مرتبة العالمية". ويضيف الأستاذ "محمد سلماوي" والذي كان أول من التقى بالأديب الكبير في مستشفى الشرطة في اليوم التالي مباشرة بعد الحادث الأليم، أنه حينما سأله عن مشاعره تجاه ما حدث. قال على الفور: ( إن شعوري مزدوجا فمن ناحية أشعر بالأسف لتكرار جرائم الرأي فهناك الشيخ الذهبي.. والأستاذ مكرم محمد أحمد و" فرج فودة "، وأقول إن هذا ليس الطريق للتعامل مع الرأي. إنه لشيء مؤسف جدا ومسيء جدا لسمعة الإنسان في العالم أن يؤخذ أصحاب الرأي.. أصحاب القلم هكذا ظلما وبهتانا. ومن ناحية أخرى أشعر بالأسف أيضا من أن شابا من شبابنا يكرس حياته للمطاردات والقتل.. فيطارد ويقتل وذلك بدلا من أن يكون في خدمة الدين والعلم والوطن.. لقد كان شابا يافعا في ريعان العمر.. كان من الممكن أن يكون بطلا رياضيا أو عالما أو واعظًا دينيا.. فلماذا اختار هذا السبيل..؟! لست أفهم..). وقد بلغ "نجيب محفوظ" قمة الرقي وسمو الخلق وشفافية الروح حينما سأله "سلماوي": ما هو شعورك تجاه ذلك الشاب.. فقال على الفور: ( إنه ضحية.. لذلك فشعوري نحوه هو شعور الأب تجاه الابن الذي ضل الطريق.. إنه شعور أكثر إيلامًا مما يمكن أن تشعر به تجاه أي مجرم عادي)، ثم استطرد: (أني سامحته.. سامحته عما يخصني أما ما يخص المجتمع فالعدالة يجب أن تأخذ مجراها). المدهش في الأمر أن "سلماوي" حينما التقى بهذا الشاب واجهه مرددا: هل تعلم أن "نجيب محفوظ" سامحك على جريمتك. قال: هذا لا يعنيني ولا يغير من الأمر شيئا.. لقد هاجم "نجيب محفوظ" الإسلام في كتبه.. لذا أُهدر دمه وقد شرفتني الجماعة بأن عهدتْ إليّ بتنفيذ الحكم فيه فأطعت الأوامر التي صدرت بناء على فتاوى الشيخ "عمر عبد الرحمن" وبقية من هم في السجون الآن.. نفذت الأمر دون تفكير فهناك من هم مكلفون بالتفكير أما أنا فكنت مكلفاً بالتنفيذ. وقمت بها بمفردي وهربت إلى زملائي في عين شمس.. وأخبرتهم أنني غرست السكين في رقبة "نجيب محفوظ".. فأخذوني بالأحضان.. وأخذوا يقولون لي : مبروك. المفارقة أن المجني عليه يسامح الجاني القاتل.. والجاني هو الذي لا يسامحه.. " ولو أنني قابلته ثانية لنفذت فيه مرة ثانية الأمر الذي صدر إلي". إنه غسيل المخ الذي يخضعه ويخضع أمثاله لوهم أن سفك الدماء هو سبيلهم إلى الجهاد في سبيل الله .. والدفاع عن الإسلام ضد من يكفرونهم ويعتبرونهم ملاحدة وأعداء الدين.