عرف المشهد الفني المغربي الشابة سناء عكرود فنانة متألقة بقامتها الصغيرة، شعلة من الأداء التشخيصي المنخرط والمتآلف مع متطلبات التقمص في حكاية. عرفها في التلفزة بالأساس، حيث لها أدوار عديدة يصعب أن ينساها الجمهور ولا يزال يتذكرها. سينمائياً، ظهرت في أفلام في شكل عابر، ثم ظهرت على حين غرة طيبة كمخرجة لأفلام قصيرة عادية في الشكل والمحتوى لكن قدر الجرأة على مراودة الإخراج فيها أتى يدل على إرادة ملحوظة. واليوم ها هي تخرج فيلمها الأول. وهي بذلك تخلق مفاجأة، بما أنها من فناني الداخل المغربي وليست قادمة من الخارج، وبما أنها ممثلة امتشقت الكاميرا لتصنع السينما بدل أن تخضع لها كامرأة أساساً، على غرار ممثلين ذكور قاموا بذات الشيء في هذه السنوات الأخيرة ويكفيها أنها فعلت. وهكذا أعطت سناء عكرود «خنيفيسة الرماد». فيلم طويل قامت بأداء دوره النسائي الأول، وكتبت حكايته السيناريستية أيضاً. وبذلك تذكرنا بمن يحاولون تبني عمل شخصي بالكامل في السينما. حكايات الجدات يعتمد الشريط على حكاية قديمة جديدة مستقاة من ريبرتوار الجدات الحكائي المستند على الخرافة والتهويل في الحدث بلازمة كان يا مكان، وذلك بقصد خلق الغرابة والشد والانتباه. حكاية تتساوى في كثير من شخصياتها وبنائها المعماري مع فيلم مخرجة مغربية أخرى هو «كيد النساء» لفريدة بليزيد شوهد قبل قرابة عشرين سنة بمرتكز ذات القصة. والغريب أن تناول المخرجتين متقارب سينمائياً ببساطته وتقلص فنيته وإن لم يكن الجديد مشابهاً للأول تماماً ولا منقولاً منه، فلكل مخرجة حساسية فنية خاصة ومختلفة. لا نقل هنا ولا تناصّ، فقط حكاية بذات العصب الرئيسي لا غير. الحدوتة البسيطة هذه بطلها السلطان العازب مولاي الغالي الذي أجبرته والدته على الزواج كي ينجب وريثاً للمُلك. ولهذا الغرض استدعت عينة من الفتيات، ومنحتهن بذرات كي يزرعنها ويقدمن بعد زمن النبتة اللازمة. طبعاً، ليس الهدف من هذه الحيلة المعروفة استنبات النبتة في حد ذاتها، بل استنبات الفتاة الذكية العارفة بالقصد والهدف، كما سيفهم المشاهد اللبيب من الوهلة الأولى، لكن الشريط في حقيقته لا يتجه لهذا اللبيب بالضبط، بل هو يوردها بخفة الحيلة الطيبة التي لا تستدعي أي مجهود سوى المتابعة والاستمتاع بقدر ما تخلق تشويقا انتظارياً، على غرار حيل أخرى عديدة زرعت في الفيلم. وطبعاً (مرة ثانية) السلطان الشاب سيتعلق قلبه بفتاة إلتقاها في ظروف بخاصة، وهو يتجول فوق صهوة فرسه في رحاب جغرافية سلطته. الفتاة لا تعرف أنه الملك فتقوم بعمل صبياني في الظاهر، لكن يغضبه ويثير فضوله ويشغله كهم طاغٍ لا يستطيع منه فكاكا. ويستتبع ذلك أخذ ورد، وشد وتراخٍ، في أجواء صراع يتغلف، وهذا هو القصد الأساسي من العمل، بمعركة بين رجل وامرأة، بين سلطة الذكورة وحيل الأنوثة. ومما يساهم في تسريع الوقائع وتنوعها تقديم شخصيات روعي في رسم ملامحها أن تكون مضحكة مسلية بما أن الشريط يعتمد أسلوب الكوميديا الخفيفة التي لا تروم الفكر والالتزام بقضية ولا موضوع. فيلم عائلي يخاطب الكل، الأطفال كما النساء والرجال كما صرحت المخرجة بذلك لقناة تلفزية ولمنابر صحفية، ولكن يخاطب في ذات الوقت الكبار بلا خدش ولا إخلال بالحياء. وتتوسل الكاتبة، المخرجة في ذلك بالتراث الذي خبرته ممثلة ونجحت فيه. التراث لباساً وفضاء وكلاماً، وأيضاً إرثاً مصبوغاً بالرواية الحديثة. جلابيب وقفاطين وحدائق ومساكن عتيقة في الداخل. وفي الخارج بادية ومروج وطبيعة فسيحة. والكل خارج الزمن وخارج الواقع الحالي. خرافة مصورة ومقدمة بوسائل حديثة متقنة كما لو أن الأمر طبيعي وبديهي في استنساخ جمعي لواقع لا يرى تعارضاً بين تمجيد ماضٍ بوسائل حاضر آلياتهما مختلفة. ولقد تعمدت المخرجة التصوير هكذا عن سبق وإصرار بعفوية حتى. السينما هنا صور مسلية لا تعني شيئاً في حد ذاتها، بل ملحقة بالكلام والحوار. فالفيلم حوار طويل متنوع تمت صياغته بعناية كبيرة وكتابة كلماته وتلميحاته حدثت بجد كبير والدليل تضمينه بالكثير من الأمثال الشعبية المتداولة المعروفة أو التي تمّ استخراجها من بطون المحكي المنسي. حكي شفويّ وهذا كله أثر في العمق بسينمائية الشريط فبدا مساراً طويلاً للحكي الشفوي يستند على صور مرافقة تظهر وتساهم وتعضد من دون أن يكون لها وجود خاص معبر لذاته. وهنا ينتصب السؤال الواجب في هكذا تناول: هل التراث كلام فقط ؟ هل لا يمكن تحويله صوراً ناطقة في حد ذاتها بالمكنون المتواجد في الفكرة الأصلية للفيلم؟ هل من الضروري أن تختار الكوميديا في تعريفها البسيط المسلي المضحك من دون العمل على الشكل؟ نتساءل لأن «خنيفيسة الرماد» (خنفساء الرماد) فيلم مطول يحسب للفيلموغرافيا المغربية الحالية في جزئها المتصالح مع أطروحة الفن العائلي والنظيف الذي قد نربح منه جمهوراً ومدخولاً، لكن الفن والإبداع يوضعان عن حسن نية في وضعية تقنية لا غير. من المؤكد أن الممثلة سناء عكرود سنت هنا تواجداً سينمائياً محترماً في منطلقاته لصفتها الفنية في المجال كممثلة تتجاوز قدرها لتُرى من الجهة الأخرى مبدعة لنفسها في مرآة نفسها في تسيير شخصيتها وشخصياتها المرافقة ولمتخيلها الخاص. ونعتقد تبعاً لذلك أنها لبست جبة الراوي الذي يختزن صوراً تسكنه كي يُخرجها في قالب حكائي منضبط للجنس الفني. قد يشفع لها أن الفن السابع جماهيري في الأصل، ويمكنه أن يضم ما يفد عليه شريطة أن يضمن القبول العام. والمخرجة يشفع لها الأخير أن لها حضوراً مسانداً سابقاً. هي إضافة بمسحة نسوية محمودة، وفي ذلك ما يجب الإشارة إليه.