عمت الإحتفالات، خلال الأسبوع الماضي، كامل الأراضي وكامل القطاعات المهنية، تحت شعار " ذكرى الحرب الأهلية". الجامع في هذه الاحتفالات أنها جميعاً اعتبرت الحرب "ذكرى أليمة"، وبالتالي عن قصد أو عن غير قصد، عن تعمية أو عن رغبة صادقة، وقع الجميع في حبائل الحفاظ على أسباب الحرب. وأغرب النشاطات، تلك التي شارك فيها ممثلون عمن خاضوا الحرب خلال السنوات الماضية، وهم الذين يكلفون أنفسهم اليوم عناء الخلاص منها. خاضها آباؤهم ودفعوا ثمنها شهداء وجرحى ومعوقين، تحت راية "الزعامات" ويتبرأ الشباب اليوم من آثارها تحت عباءة الأحفاد الذين يتهيأون لإستلام راية "الزعامة" من الآباء... تغيرت بعض الوجوه والأسماء. ولكن الجوهر بقي هو نفسه. جوهر النظام الطائفي، الذي خدم تحالف الإقطاع مع الطغمة المالية سابقاً ويخدم اليوم تحالف أمراء الطوائف مع الرأسمال اللبناني ومشاريعه، الأكثر اتجاهاً نحو تعميق التبعيات الاقتصادية وبالتالي السياسية، للخارج الإقليمي والدولي. وأسوأ ما في الأمر، هو التكرار المقيت لتسمية الحرب، بأنها حرب الآخر على أرضنا. وأغاني العيش المشترك وتسامح الأديان؟ نحن الأبرياء "البسطاء أو الأغبياء؟" الذين يسهل على الخارج الدخول الى غرفنا واللعب بمصيرنا. وبهذا التوصيف غالباً ما يتجه الإتهام الى الغريب الأضعف، الى الفلسطيني الذي يتحول من ضحية هجرت من أرضها قسراً الى "مجرم" ضحك على اللبنانيين وقادهم باتجاه حرب كلفتهم عشرات الآلاف من أبنائهم وهجرت الملايين منهم. والغريب الثاني طبعاً، هو السوري، الذي هبط من السماء ودخل البلاد "دون حلفاء بالداخل" وعاث فساداً، يأمر ويطاع مجاناً (دون ارتباط مصالحه مع مصالح من يطيعه وينفذ قراراته من زعامات لبنان). قليلون هم الذين يشيرون الى واقعة تاريخية تؤكد ان الحروب الأهلية المستمرة منذ الخمسينيات تزامنت مع خلق الكيان الصهيوني على حدودنا ودوره في تهديد الأرض والجو والثروة. ودوره الأساسي في تهجير الشعب الفلسطيني وبقسم كبير منه الى أرضنا. البعض منهم اعتبره "الوحش النائم" أو الوديع أحياناً، الذي ما تحرك إلاّ بعد ان استنفره مقاتلو المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني ! والأسوأ أن هذه التوصيفات، لم ترم، حتى بوردة، الدور الأميركي في لبنان وفي المنطقة ولا الدور المغطي للإحتلال ونتائجه الذي لعبته الدول العربية الرجعية وبالمراحل الأخيرة ما يسمى بالجامعة العربية. ***** نعم كلنا بحاجة الى نقد ذاتي ودراسة معمقة للحرب المستمرة وأسبابها. ولكن هل هذا يعني وضع الجميع في سلة واحدة من المسؤولية؟ وهل هذا يعني التعمية على الأسباب الحقيقية للحرب؟ حكماً التعمية على أسباب الحرب والمساومة فيها، تؤدي الى تجديد ظروفها واستقرارها لفترات أطول وبالتالي وضع شبابنا أمام الواقع المر والمستقبل المظلم في استمرار ويلات الحرب. الحقيقة الثابتة، هي أن المرحلة الأخيرة من الحرب، اندلعت في أبريل 1975، بل في فبراير1975 مع اغتيال المناضل معروف سعد، بل وقبل ذلك في نهاية الستينيات جاءت لتقطع مساراً بدأ، لا لتصنع مساراً جديداً... مسار بدأ على المستوى الاجتماعي، بتصاعد التحركات العمالية وتحركات المعلمين والمزارعين والشباب والطلاب، تحت شعارات متشابكة، من المطالبة بالحقوق وتحسين لقمة العيش ومواجهة الاستغلال والإفقار والاحتكار الذي يمارسه التحالف الطبقي الحاكم بإطار النظام الطائفي، الى المطالبة بالاصلاح والتغيير السياسي باتجاه نظام ديمقراطي عروبي، يلغي الطائفية ويحقق الإنتماء الوطني بديلاً عن الإنتماءات دون الوطنية السائدة. الجانب الثالث من الشعارات المتشابكة في مسار التغيير، كان المتعلق بالقضية الوطنية، وليس المقصود هنا دعم المقاومة الفلسطينية، بقدر ما كان يركز على تأمين صمود أهالي الجنوب وتعزيز المقاومة الشعبية في وجه الإعتداءات الإسرائيلية المستمرة. كان المسار المعتمد من قبل القوى الديمقراطية، هو مسار سلمي قائم على التحركات الشعبية وبعيد عن استخدام السلاح. تحركت قوى النظام بدفع من الخارج لضرب هذا المسار في كل شعاراته. وتعرضت التحركات الشعبية للقمع. من قمع عمال غندور ومزارعي التبغ الى ضرب تحركات الطلاب في الجامعات من الميليشيات اليمينية بحماية الأمن والجيش حينها الى اغتيال الشهيد معروف سعد.. لقد أصرت "الحركة الوطنية" على هذا المسار الديمقراطي، من خلال برنامجها المعلن في 18 غشت 1975 تحت شعار "من أجل اصلاح ديمقراطي للنظام السياسي في لبنان". وحتى لا نستعيد الشريط كاملاً، لا بد من التذكير ببعض المحطات - النكسات في هذا المسار. النكسة الأولى بدون شك، تمثلت بالحرب الأهلية ذاتها، وبدور النظام وقواه في تأمين شروط الحرب بهدف إعادة تثبيت أسس النظام وتكريس دوره في خدمة المشروع الأميركي في المنطقة، خصوصاً على أبواب الاتفاق المصري مع العدو والذي كانت تحضره الإدارة الأميركية. أما النكسة الثانية فتمثلت بضرب الأساس الديمقراطي لمشروع التغيير عبر اعتصام "المفتين" في عرمون، والمدعوم حينها من القيادة الفلسطينية، وتراجع القيادات الوطنية أمام هذا الاعتصام وتحويل الشعار من التغيير الديمقراطي الى "المشاركة" وفي جوهرها تمسك بالنظام الطائفي وتنظيم محاصصة جديدة داخله. أما النكسة الثالثة فتمثلت بالدخول السوري الى جانب قوى النظام والتي انتهت باغتيال رمز المشروع الديمقراطي العروبي كمال جنبلاط. وآخر معالم الهزيمة، كان اتفاق الطائف نفسه، الذي شكل الإطار الدولي - الإقليمي لتجديد النظام الطائفي وتعميق تناقضاته وتحويله الى نظام مذهبي يكرس مصالح الرأسمال اللبناني وارتباط لبنان الكامل بالتوازنات الإقليمية. نعم شكل اتفاق الطائف، نكسة لمسار التغيير الديمقراطي وانتصاراً مستورداً للقوى المذهبية والطائفية، وفي كل الحالات أتى ليشكل أطول هدنه في مسار الحرب الأهلية المستمرة منذ ذلك الحين. ****** إن القراءة الموضوعية، تستدعي القول إن هذه الهدنة الطويلة، سقطت عام 2003 ودفنت مع اغتيال أحد رموزها أي الرئيس الحريري. ونحن اليوم في إطار حرب أهلية مستمرة تتعدد أشكالها وإداراتها. ولعل عدوان تموز 2006 شكل الظاهرة الأبرز في استمرار هذه الحرب، خصوصاً بالجانب المتعلق من الخلاف اللبناني اللبناني حوله، وكل الأحداث الأمنية التي تتالت وأخذت أشكالاً طائفية ومذهبية، وصولاً للتهديد الكبير الذي تشكله القوى الإرهابية على حدودنا ربطاً بالتطورات على الساحة العربية وتحديداً في سوريا. ولا بد من التأكيد إضافة الى العامل الخارجي الدائم للإرهاب. بأن العوامل الداخلية والتعبئة الطائفية والمذهبية تبقى الرافد الأساسي لهذا الإرهاب الذي أصبح داخلياً في تهديده وتكوينه وليس خارجياً فقط. وجوانب الأزمة ذاتها. العدو الإسرائيلي مستمر في فعله على الحدود وفي دعمه للإرهاب وفي الداخل. المشروع الأميركي يضغط لدور لبناني في دعم المشروع على المستوى العربي والإقليمي. بعض قوى المواجهة المفترضة، تستعيد دور "لقاء المفتين" في الابقاء على الخطاب المذهبي والطائفي أساساً في المواجهة. القوى المذهبية المتناحرة المتحاورة، تختلف على كل شيء، وتتفق على ضرب الحركة الشعبية والنقابية الديمقراطية وتخضع بالجملة لإملاءات الطغمة المالية والهيئات الاقتصادية وفي المقابل تعطل كل المؤسسات باتجاه السعي لتحاصص طائفي مع هذا النظام والتي لا يمكن ان تنتهي إلا بتغييره. إن دعوتنا لمؤتمر تأسيسي للدولة الديمقراطية، ليست دعوة مستجدة لا منّا ولا من غيرنا إنها الفقرة التي اختتم فيها كمال جنبلاط وقادة الحركة الوطنية "البرنامج المرحلي" في غشت 1975 عبر الدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية، حيث جاء: " إن الصيغة الأفضل لتنظيم عملية الوصول الى هذا الإصلاح الديمقراطي للنظام السياسي تكون بالإحتكام الى إرادة الأكثرية الشعبية، عبر دعوة اللبنانيين الى انتخاب جمعيه تأسيسية على أساس لا طائفي، تمثل مختلف التيارات السياسية والتجمعات الشعبية في البلاد لتقود حواراً وطنياً واسعاً بشأن الاصلاح المقترح ولتضع التشريعات الدستورية والنظامية اللازمة لوضعه موضع التغيير". شمعة توهجت عام 1975، ما زالت هي الضرورة للخروج من نفق الحرب الأهلية المستمرة التي يشعلها هذا النظام....