مقدمة لانفتاح القناة على المسرح المغربي أم مجرد سحابة صيف؟ عاش جمهور المشاهدين المغاربة من متابعي برامج القناة الثانية، ليلة الجمعة الماضي، لحظات جميلة مع مسرحية بنات لالة منانة لمسرح « الكعب العالي»، نقلتها القناة مباشرة من مسرح محمد الخامس الذي كان بدوره مملوء عن آخره، وهذه دون شك نقطة تحسب للقناة الثانية.. نتمنى أن تصبح سنة، طول السنة تعمد من خلالها القناة إلى تمثين علاقة المشاهد المغربي بمسرح ينتج محليا بالتضحيات والكد والعرق، وهو أجدر بالتشجيع لكي تتسع رقعة إشعاعه، جل المشاهدين كانوا مأسورين بعرض «لالة منانة» وكان الجميع يتابع حركات وسكنات نجمات يضفين ألوانا وأضواء على الركح ويبدلن أقصى ما يستطعن لتمرير خطاب أردنه بليغا من خلال الاعتماد على نص للشاعر الاسباني الكبير فديريكو غارسيا لوركا تحت عنوان «لاكازا دي برناردا ألبا» الذي يشكل علامة فارقة في مسار الفنانات خريجات المعهد لأنه النص الذي اشتغلن عليه خلال التخرج، وبعد عدة سنين وبعد أن شقت كل منهن طريقها، يعود هذا النص ليوحد بينهن، ويتفتق عن خروج تجربة مسرح الكعب العالي الفريدة إلى الوجود حيث بدأت كضرورة أملتها طبيعة النص لتتحول إلى اختيار يبتغي إرساء قواعد مسرح أنيق في تعبيره حامل لخطاب جديد ومختلف، لن نجازف بالقول انه مسرح نسائي مائة بالمائة، لأنه قول غير صحيح، ومردود عليه ولكن مع ذلك سيبقى مسرحا تأسس بمجهود نسائي صرف، وكأننا بلالة منانة لا تختلف كثيرا عن الفرق المسرحية التي تحجر على الممثلات وتقفل عليهن في ادوار ضيقة ولا تسمح بتفتق طاقاتهن الإبداعية، أو التعبير عن مكنونهن ونظرتهن الأنثوية التي تتقابل أو تتقاطع مع قيم اجتماعية أبوية راسخة، وهذا ما سيحول الخروج الخجول لمسرح الكعب العالي إلى ظاهرة، لسبب بسيط أن هذه الفرقة تقودها فنانات يمتلكن الأدوات النظرية والخبرة التي راكمنها من خلال الممارسة الطويلة والحب الكبير لأب الفنون وسيدها المسرح. لالة منانة العرض الذي كتبت حواره نورا الصقلي، وأخرجته سامية أقريو وشاركتا معا في التشخيص إلى جانب هند السعديدي، وسعدية أزكون، وسعدية لديب وسكينة لفضايلي، بينما وقف خلف جزء كبير من مسؤولية الفرقة مصممة السينوغرافيا، الرائعة رفيقة بنميمون. تتحدث المسرحية عن تجربة إنسانية عميقة، تجربة نسائية بشخوصها وأحداثها وطقوسها، ومن خلال باب أشرعته نجمات فرقة الكعب العالي واسعا على عوالم النساء الخفية وأشيائهن الصغيرة، وأسئلتهن الكونية حول الحرية والحب وعذابات أنوثة مقيدة ومحبطة، تدمن حزنها، وعلى العكس من كل المضمون المأساوي استطعنا التمتع بعرض مرح وبظل خفيف مع لحظات ضاحكة، أكدت قدرة المبدعات على تحويل الألم إلى ضحك، هذه تجربة ليست مسبوقة في المسرح المغربي، أن توجه النساء خطابهن بسلاسة وشفافية مع اختراق الكثير من القيم والتقاليد البائدة، وبوسائط إبداعية، من خلال مسرح اجتماعي هادف مع نفحة كوميدية، يتوجه من خلالها إلى الأسرة والى الأباء وتنبيههم إلى أننا لا نستطيع أن نحمي بناتنا وأولادنا بالقسوة عليهم، بل إن تحصينهم من السقوط يتم بواسطة الحوار والتفهم، والاستماع إلى مشاكلهم، من يدعي أن هذا العرض يقف عند هذا الحد أو أنه جاء ليعالج مشكل العنوسة أو للحديث عن بنات « فاتهن قطار الزواج»، سيكون مخطئا وسطحيا و فاتته العديد من الإشارات القوية التي كانت ترسلها المشاهد المتوالية، منسابة على شكل أسئلة بخصوص الحرية، الكرامة والحب، عن القيود والممنوعات، والرغبات عن الشجاعة والاستسلام عن الظلم والاحتجاج وعن خوف الأمومة الذي يتحول إلى شطط. العرض كان مفعما بالأسئلة ويتيح اختلاس السمع لنبض أنثوي انفصل عن أسطورة الكمال معلنا عن وجوده الفعلي وقصوره الإنساني. لقد كان طويلا هذا الشطر من التاريخ حيث كانت النساء يصمتن ويحتكر الفحول الكلمة للتعبير عن مشاعرهم تجاه النساء وحاجتهم الدائمة إلى وجودهن، الأنثى الآن ترتجل بصعوبة كلماتها الأولى وهذا حق قد يراد به باطل يحول المادح إلى ممدوح والراغب إلى مرغوب به، لعبة تبدو حافلة بالكثير من المطبات، فالمرأة عندنا كانت على الدوام أشبه بصندوق أسرار محكم الإغلاق ونحن معشر الذكور حين نتحدث عنها لا نوفيها حقها الكامل غالبا لأننا في الحقيقة لا نفهمها في اختلاجات أحاسيسها أو في أبعاد ذكائها الذي تخفيه لأنه دليل إدانة قد يستعمل ضدها، لا نفهما سواء في إخضاعها أو الخضوع إليها، لا نفهم تمردها أو حكمة الأمومة فيها، كيف تستطيع أن تفهم إنسانا يبدو ضعيفا في اشد لحظات قوته وفي فيض حنانه يبدو بالغ القسوة، يقول المثل المغربي « لمرا غير مرا ماهي شمس ولا قمرة» وكل الدلائل تشير إلى عكس ذلك على الأقل في مجتمع الذكور نقدر كل أنواع النساء ونميز بين الشموس والأقمار منهن، ولا نعير بالا للأوصاف العدائية التي تطلقها النساء على بعضهن، حتى في الطبيعة من معقدها إلى بسيطها، الذكور وحدها تجري خلف الأنثى واهبة الغواية، واهبة الحياة. خلاصة يمكن بناء على ما سلف أن نستنتج من عرض لالة منانة كيف تتحول محبة وخوف الآباء إلى مشنقة تخنق الطموح والرغبة في الحياة، كيف تتحول المحبة إلى جريمة قتل بطيء، مع أن شدة التضييق عليهم عوض أن تحميهم تدفع بهم من شدة الحرمان إلى أبواب جهنم، كيف صار حضور الجنس الآخر «اللغز»، في بيت لالة منانة ، مثارا للتنافس بينهن بل العداوة في الكثير من الأحيان ومحاولة كل واحدة منهن الظفر بهذا الرجل الذي جاء لخطبة الأخت غير الشقيقة، الذئب الذي دخل خم دجاجات غريرات ، ولم يفد لالة منانة حرصها ومراقبتها الشديدة لهن وصرامتها في إيقاف رغبتهن وتوقهن إلى معانقة الحرية وهذا ما تختتم به المسرحية عبر لوحة تتضمن تجاوزا وتسامحا كبيرين وبقي النص مفتوحا على الانتصار والتفاؤل كما هو الشأن بالنسبة لتجربة رائدة ك «مسرح الكعب العالي» التي ستكون لها كلمتها في المشهد المسرحي المغربي، بل سيمتد إشعاعها إلى خارج حدود المغرب و «علاش لا»، بالنظر إلى مستوى نجماته اللواتي أكدن علو كعبهن الفرجوي وعلو خطابهن الإبداعي.