ارتبط الإنتاج الثقافي العربي الإسلامي في العصور القديمة بفضاءين اثنين: المجالس الخاصة (السمر المسجد الديوان) من جهة، والساحة العمومية من جهة ثانية. وإذا كانت المجالس قد انتقل ما أنتج فيها إلى ما يمكن أن نسميه بالثقافة العالمة، فإن ما ظل يتداول في الساحة صار يتحدد في نطاق الثقافة الشعبية. لقد ظلت الثقافتان تسيران جنبا إلى جنب، إذ لا غنى لإحداهما عن الأخرى، ولا غرابة أن نجد الساحة العمومية تقام عادة قرب المسجد أو الجامع، أو السوق باعتبارهما فضاءين للتجمهر والتجمع. صارت المجالس الآن خارج الديوان، وصارت المدرسة والجامعة، تنويعا عصريا على «الجامع»، لكن الساحات العمومية الشعبية التي كانت فضاء للفرجة ولتفتق مواهب وعبقرية «المثقف» الشعبي باتت تتقلص بصورة كبيرة. وتم تعويضها بالمتاجر الكبرى التي تساهم في هيمنة «ثقافة» التسوق والاستهلاك لا الإنتاج الثقافي وتلقيه. يكفي أن نتذكر ساحة جامع الفنا، القريبة من جامع الكتبية بمراكش، في السبعينيات لنجدها تستحق فعلا دعوة الكاتب خوان غويتوسولو إلى اعتبارها تراثا إنسانيا. كانت تزخر هذه الساحة بحلقات (الحلاقي) الفن الشعبي الغنائي والسردي التي تقدم فيها كل أنواع الخطابات، وبمختلف اللغات التي يزخر بها المغرب الثقافي، وتجتمع فيها كل شرائح المجتمع، بغض النظر عن العمر أو الجنس، طلبا للمتعة والضحك وتحقيق المعرفة. وبمحاذاتها كنا نجد باعة الكتب المستعملة التي يحصل فيها رواد الساحة على مؤلفات بأرخص الأثمان. ونجد الشيء نفسه في اشطيبة، ودرب غلف في الدارالبيضاء أيام زمان. كانت الحلاقي متنوعة ومتعددة كما في ساحة جامع الفنا، وكان باعة الكتب المستعملة إلى جانب هذه الحلقات. وكأن المكتبة الشعبية تكملة لذيل الحلقة. وفعلا ابتلي جيلي بحب القراءة والمطالعة بسبب هذه المكتبات التي كانت تعرض من بين مؤلفاتها بعض العوالم التي كانت تقدم في تلك الحلقات نصوصا دينية، ونصوص السير الشعبية... وكأن ما يجري في تلك الحلقات يحثنا على مواصلة ما يقدم فيها من سرود شفاهية، من خلال البحث عنها في الكتب المعروضة على الأرض. كانت السوق الشعبية ساحة ثقافية بامتياز تتجاور فيها المواد الغذائية، والأشياء المستعملة، بالكتب القديمة والمخطوطات، بالحلقات المتنوعة التي يجد فيها الجمهور ضالته. لطالما تزودنا بالكتب النادرة من خلفية جامع القرويين في فاس، والعكاري في الرباط، وشارع المتنبي في بغداد، وسور الأزبكية في القاهرة، ولقد ساهم هذا التجاور في إعطاء هذا الفضاء الشعبي بعدا ثقافيا، يلبي مختلف حاجيات الناس. زالت من ساحة جامع الفنا سوق الكتب القديمة والمستعملة، وحل محلها باعة الأطعمة المغربية المختلفة. ولم تبق من خصوصية هذا المكان سوى تلك الحلقات التي تختلط فيها الأصوات الكرنفالية بروائح الأطعمة، مع هيمنة بارزة للرائحة على الصوت، إلى حد اعتبارها مطعما فسيحا يقصده الزوار لملء البطون، لا فضاء للفرجة والبسط. وزالت الساحات الثقافية الشعبية من مختلف المدن، وقد حولت فضاءاتها لتصبح مواقف للسيارات تارة، أو للسكن الاجتماعي طورا. وحتى بعض الساحات التي بقيت شاغرة، تم تبليط أرضياتها، وملؤها بكراسي إسمنتية، ووضع نافورات صماء: ساحة باب الأحد في الرباط مثلا. قلت المكتبات الشعبية، وتقلصت الحلاقي، واختفت الفرجة الشعبية من العديد من الفضاءات. صارت معارض الكتب السنوية، ومنصات المهرجانات الموسمية بديلا. واحتلت المحلات التجارية الكبرى خصوصيات الساحة الثقافية الشعبية، لكن بدون ذاك السحر الذي كان يطبعها. وصارت الملاذ الأول والأخير للعائلات والأطفال. قد يجد الأطفال ضالتهم في بعض الألعاب التي تملأ هذه الفضاءات الجديدة، وبعض المأكولات الجاهزة، لكن بدون أن تلبي هذه الفضاءات متطلبات الخيال الذي كان يتكون في الساحة الشعبية، بسبب ما كانت تزخر به من من غنى وثراء إنساني وعاطفي. إن المتاجر الكبرى فضاءات للتسوق والاستهلاك لكن بدون عمق ثقافي. الساحة الثقافية العربية فضاء شعبي بامتياز، بدأ يفقد بريقه وعمقه التاريخي. قد يفسر ذلك بهيمنة بعض مظاهر تحديث المدينة العربية، لكن المدينة الغربية التي عرفت الحداثة قبل مدننا بقرون، ما تزال تحتفظ بهذه الساحات وزخمها الثقافي، بل أن الساحات العمومية والحدائق العامة جزء أساسي من فضاء المدينة العصرية. وتستغل كل المناسبات في هذه المدن لاستحضار البعد «الكرنفالي» الذي يغطي قرونا من الحضارة الأوروبية في هذه الفضاءات المتجددة. ويكفي الاطلاع على كتابات باختين لمعرفة دور الساحة الثقافية في الحياة الغربية. إن إعادة تأهيل هذه الساحات الثقافية كفيل بربط الحاضر بالماضي. وما تفكير منظمي «معرض» الكتب المستعملة في ساحة السراغنة في الدارالبيضاء خلال هذا الشهر سوى مساهمة في هذا التقليد الثقافي العريق. كما أن تنظيم «عيد الكتاب» في تطوان سنويا في شهر مايو يضفي على الساحة الشعبية بعدا ثقافيا بارزا. مثل هذه التظاهرات المهمة، تظل مع ذلك موسمية، ولا تسمح للأجيال الجديدة بتكوين حس ثقافي وفني يتصل بمعمار المدينة. ثقافة الاستهلاك والتسوق باتت مهيمنة، وبدون إعادة تهيئة المدينة العربية وتصميمها بإعطاء الساحة الثقافية بعدا ثقافيا يوميا، لا يمكن سوى إنتاج أجيال لا علاقة لها بتراثنا وثقافتنا.