لازال خطاب جلالة الملك الذي ألقاه نيابة عنه رئيس الحكومة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يثير تحليلات الأكاديميين والإعلاميين واختصاصيي السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، وذلك اعتبارا لكونه كان بالفعل مختلفا ومثل قطيعة مع ما هو مألوف في مثل هذه المناسبات الديبلوماسية. الخطاب الملكي كان مرافعة حقيقية أمام المحفل الأممي لصالح القارة الإفريقية ومجموع البلدان النامية ضد سياسة الغرب تجاه هذه الشعوب طيلة عقود. خطاب جلالة الملك جاء مختلفا أيضا من حيث اللغة والمعجم، ذلك أن الوضوح والصرامة كانا هما سمات المضمون والأسلوب معا، حتى أن عددا من المحللين اعتبروه خطابا ثوريا بكل معنى الكلمة. لم يتردد جلالة الملك في مخاطبة البلدان الغربية بالقول بأنها لا تعرف سوى إعطاء الدروس للدول النامية، وبأنها تقدم لها كثير وعود، وفي أحسن الأحوال بعض النصائح، لكن دون أفعال حقيقية على أرض الواقع، كما شدد الخطاب الملكي على ضرورة الانتصار لنموذج تنموي ينسجم مع خصوصيات البلدان المعنية وحاجيات شعوبها ومميزاتها الطبيعية والثقافية والاجتماعية. إن المملكة المغربية التي انخرطت في العمل الميداني من أجل استقرار إفريقيا وتنميتها، وتصر على الدفاع عن وحدة بلدانها، وعلى بلورة وتفعيل نموذج تنموي يعتمد على الذات أولا، تضيف إلى ذلك اليوم دورا ديبلوماسيا وسياسيا كبيرا من خلال الدفاع عن هذه التوجهات الإستراتيجية أمام العالم كله، وهذا يضعها في عمق المسؤولية للدفاع عن القارة وشعوبها والتعبير عن انتظاراتها وتطلعاتها. هذه المسؤولية ليست بسيطة على كل حال، وهي تجعل المغرب على احتكاك بمصالح البلدان القوية، وفي تقاطعات معقدة مع الصراعات الجارية داخل القارة السمراء وحولها، ولكن في الوقت نفسه هو يمتلك ارتباطا تاريخيا وروحيا عريقا بشعوب القارة يجعله معنيا بمستقبلها وذا شرعية في الفعل والحضور الميداني، علاوة على ضرورة الحرص على مصالحه الوطنية والإستراتيجية الخاصة، كما أنه أبان أكثر من مرة على أهمية دوره ومحوريته لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية في القارة. اليوم، تجدر الإشارة إلى أن هذا المنحى الذي أسس له الخطاب الملكي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يتيح لديبلوماسيتنا الوطنية نفسا وأدوارا جديدة، ويفتح لها آفاق لا بد لها أن تنخرط فيها بكامل الذكاء والفعالية والمسؤولية، كما أنه يفرض تمتين الدور الجديد وتقويته في المحافل الدولية على غرار ما تقوم به بعض البلدان الصاعدة من إفريقيا نفسها أو آسيا أو أمريكا اللاتينية في السنوات الأخيرة، وهذا يفرض استيعاب قضايا الشعوب والانخراط في مسلسلاتها وتبني العادل منها والدفاع عنها. من جهة أخرى لابد من التأكيد على أن إنجاح هذا الدور الديبلوماسي الجديد للمملكة يفرض أساسا إنجاح مسلسلات الإصلاح والتحديث داخل البلاد، وبالتالي جعل هذا النجاح الداخلي هو القوة الجاذبة والمقنعة للثقة في مصداقية البلاد وسط الشعوب الأخرى. خطاب جلالة الملك يؤسس اليوم لهذه المرحلة الجديدة، ولابد من إحكام تدبير منطلقاتها وتفاصيلها لتكريس النجاح للمملكة داخليا وخارجيا.