سافرت فيما بعد (منتصف الخمسينيات إلى إسرائيل) وكانت مطربة عراقية جميلة الشكل. في مطلع الخمسينيات دائماً من القرن الماضي شعر عبد الوهاب بأن أوتاراً معينة في صوته قد اختفت وكان يُرجعها أمام اصحابه إلى «لطشة هوا»، وكانت غير ذلك. وجاءت حادثة مدينة طنطا غربي القاهرة حيث قوبل غناؤه لقصيدة «كليوباترا» بشلال من البيض والبندورة فاحتجب فترة عن الغناء وانصرف للتلحين فقط. سعى كثيراً للقاء غنائي مع أم كلثوم لكن الجواب كان يأتيه «الوقت مش مناسب» والذين توسطوا لهذا اللقاء كانوا كثراً، من أبرزهم طلعت باشا حرب مدير ومؤسس «بنك مصر» والصحافيان الشهيران محمد التابعي ومصطفى أمين. وحتى «يكتمل النقل بالزعرور» صدت عبد الوهاب عن محاولة ترشحه لنقابة الموسيقيين، وتربعت على عرشها للمرة الثالثة على التوالي (1938 1948). في شتاء العام 1964 تظاهرت أم كلثوم بأنها اقتنعت أخيراً بغناء لحّنه عبد الوهاب. ظاهر الأمر كان ضغط الرئيس الراحل عبد الناصر على الطرفين خصوصاً على أم كلثوم التي كان عبد الناصر مداوماً حتى لا نقول مولعاً بصوتها وأغانيها. لكن وراء الأكمة ما وراءها وإليكم التفاصيل: في العام 1961 كانت أم كلثوم تنشد آخر أغنية للشيخ زكريا مطلعها «هوا صحيح الهوا غلاّب ما اعرفش أنا»، كلمات الشاعر المبدع بيرم التونسي. وسنداً لرواية الصحافي البارع محمود عوض في كتابه «أم كلثوم» الصادر في العام 1968 (وكان الراحل الزميل مقرباً من أم كلثوم) لأنه هذا الأخير (شرقاوي ومن محافظة سبلوين). اجتمع في منزلها في الزمالك، كما هي العادة، زوجها الدكتور حسن الحفناوي وصديق العمر أحمد رامي وابن أختها المهندس محمد الدسوقي (الذي كان مديراً لأعمالها). وضعوا «الفيديو» الذي سجله الدكتور حسن كما هي العادة. وعندما وصلت أم كلثوم إلى مقطع «جاني الهوا من غير مواعيد، وكلما جاء حلاوته تزيد ما اعرفش يوم حيا... بعيد». هنا طلبت أم كلثوم اعادة القطع مرة ثانية فسألها رامي: «فيه ايه يا ثومة» أجابت: «ولا حاجة». لكنها ردت السؤال لرامي «ما لاحظت حاجة؟». قال رامي وهو ديبلوماسي في الكلام «هوا في شوية تعب عند كلمة «ياخدني بعيد، بعيد عني قلبي بالافراح». في اليوم التالي استفردت بالأستاذ عوض وبابن أختها الدسوقي، وسألت الأول: «إزاي علاقتك مع كمال الملاّخ» فأجابها عوض «تمام تمام». أضافت أم كلثوم «سمعت أن له نسبياً عاد لتوه من أميركا وهو دكتور بارع في مسائل الحلق والفم والأذن، هل أمّنت لي موعداً معه بدون علم الصحافي ملاّخ» (تقصد كمال الملاخ الصحافي في جريدة الأهرام). حضرت أم كلثوم إلى عيادة الطبيب الذي فوجئ بالزيارة وبعد الفحص على آلات أميركية استوردها معه قال لها الطبيب: «وضع أوتارك ممتاز، والنفس كذلك، لكن أنتِ تعرفين يا ست أم كلثوم هناك أوتار تختفي من الحنجرة أو تتعب بسبب العمر أو نتيجة لأمور أخرى». بعد أسبوع يضيف الصحافي محمود عوض رنّ هاتفه الخاص في جريدة «أخبار اليوم» وكان الهاتف الست أم كلثوم التي سألته فوراً «ممكن يا محمود تلاقيلي تلفون محمد فوزي المطرب». أجاب عوض «بعد ربع ساعة يا ست». وهكذا كان، حضر محمد فوزي إلى منزل أم كلثوم وكعادتها رحّبت به وامتدحت نوع أغانيه الخفيفة الظل. فشكرها فوزي ثم قال: «أنا بتصرفك يا ست». أجابت: «عندي هذه القصيدة لمأمون الشناوي وعنوانها «أنساك يا سلام. أنساك دا كلام». فرد فوزي «كلام جميل أتمنى أن ألحّنها لك قريباً». مرّ أسبوع كامل، عاد فوزي إلى بيت الست ووضع «المذهب» لأغنية «أنساك يا سلام. أنساك دا كلام» وانتظرته في الاسبوع الثاني فلم يأت. هنا اتصلت هاتفياً بزوجته مديحة يسري فأجابتها: «محمد تعبان. تعبان قوي يا ست». وفي اليوم التالي توجهت الى منزل فوزي وهناك عرفت أنه مصاب بمرض خطير فاتصلت أولاً بعبد القادر حاتم الذي وعدها خيراً لكنها عادت واتصلت «بالرئيس» وقالت له «إن محمد فوزي مريض جداً وأرجو أن تهتم بالأمر». فأمر عبد الناصر تسفير فوزي إلى أميركا حيث أمضى أكثر من ستة أشهر ليُغادر بعدها هذه الدنيا. في هذه الأثناء كانت أم كلثوم تتصل هاتفياً بمحمد فوزي مرة كل أسبوع. وفي أحد المرات سألته: «من تقترح ليوزع لحنك الجميل «أنساك يا سلام»؟. فردّ فوزي عندي تلميذ موهوب جداً أنصحك بالتعاون معه اسمه بليغ حمدي. وهكذا ضمنت أم كلثوم كعادتها اثنين من الملحنين: عبد الوهاب وبليغ حمدي. وصارت في السنوات العشر الأخيرة من حياتها تنوّعت وتوزّعت أغانيها بين عبد الوهاب «إنت عمري» وبليغ حمدي صاحب «سيرة الحب» حتى وافاها المرض إياه فأصيبت بالكلية وكانت ترفض الذهاب إلى المستشفى وتعاند وتقول لرامي: «أريد أن أموت وأنا أغني على المسرح». لكن الموت لا يرحم. توفيت في يناير من العام 1975 أي بعد أسبوعين فقط على وفاة فريد الأطرش الذي أسلم الروح في 26 ديسمبر من العام 1974 في بيروت. كانت أم كلثوم في الغناء كالمتنبي في الشعر. لا أحد قبلها ولا أحد بعدها وكل من قلّدها كان مصيره الفشل وضياع الوقت. إنها الصوت المعجزة الذي لا يتكرر إلا كل ألف سنة. الحقد الكلثومي بالرغم من شهرته العالمية والمصرية بوجه خاص، تطوع محمد افندي القصبجي بتأليف فرقة موسيقية كاملة لأم كلثوم التي وصلت من «طماي الزهر» في محافظة الشرقية وهي ترتدي سروالاً وعقالاً كالرجال. حتى أن منيرة المهدية في عتابها للفنان الراحل أبو العلا محمد قالت له وهي تعاتبه: «ما تفهمونا هيَّ صبي والا بنت». وكان نجم هذه الفرقة الجديدة عازف الكمان الحلبي سامي الشوا الذي خلفه بعد وفاته المصري كمال المغناوي وتولى القصبجي نفسه آلة العود وعبده صالح آلة القانون. ولحن لها أجمل الألحان بمعاونة صديقه الشاعر أحمد رامي، لعل أبرزها: «رق الحبيب» التي تعتبر محطة خارقة في مسيرة أم كلثوم. لكن القصبجي بعد خناقته الشهيرة مع أم كلثوم حول فيلم «عايدة» الذي أراده فيلماً أوبرالياً يرفع منزلة أم كلثوم إلى مستوى «ماريا كسالاس لكنه فشل فشلاً ذريعاً مع تلميذه النجيب فريد غصن. فانكسر الود بينه وبين الست. ومنذ العام 1942 أطلت على القاهرة المغنية الساحرة الجميلة اسمهان. فالتف حولها عبد الوهاب، داوود حسني رياض السنباطي ومنهم «قصب» كما كانت تناديه أسمهان. فلُحِّنت لها أجمل الألحان منها «يا طيور»، «أسقنيها بأبي أنت وأمي»، « ليت للبرّاق عينا». فجن جنون أم كلثوم وركنت له في الزاوية. بعد وفاة اسمهان حاول «قصب» أن يعيد العلاقات مع أم كلثوم فلحّن لها أكثر من عشرين لحناً كانت ترميها في درج مكتبها. وبقيت مقاطعة له حتى وفاتها في العام 1975. بل أكثر من ذلك عزلته من قيادة الفرقة الموسيقية وكلفت عبده صالح بذلك وبقي القصبجي عواداً في فرقتها حتى وفاته في أواخر الستينيات. وهو يعتبر بحق أكثر المجددين والمبدعين في الموسيقى الشرقية. لكن الحديث الشريف انطبق عليها وهو «إن كيدهن عظيم».